عباس محمود العقاد: شاعر العقل والوجدان

 

في إطار التعاون الوثيق بين اتحاد كتاب وأدباء الإمارات – رأس الخيمة، ومكتبة اليقظة العربية – رأس الخمة أقيمت أمسية شعرية ثقافية للأستاذ زكريا أحمد عيد المستشار الثقافي والتربوي بالمكتبة بعنوان (عباس محمود العقاد: شاعر العقل والوجدان) وذلك مساء يوم الاثنين الموافق 3-3-2014 بقاعة جمعة الفيروز بالاتحاد بمنطقة النخيل برأس الخيمة، وحضرها لفيف من الأدباء والمثقفين من داخل الإمارة وخارجها.

وقدم للأمسية وأدار الحوار الدكتور هيثم الخواجة المسؤول الثقافي بالاتحاد وجاء في كلمته أن الأستاذ زكريا أحمد عيد مثقف شامل اشتغل على ترجمة بحوث ثقافية ودراسات تربوية مهمة ويفتح الآن كل شهر نافذة على ثقافات العالم في مجلة الرافد التي تصدرها   دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة وقد عمل موجهاً للغة الإنجليزية في رأس الخيمة لفترة طويلة قبل ان يتفرغ لمتابعة نشاطه الثقافي والتربوي.

وقدم الدكتور هيثم الخواجة للعقاد فأشار إلى أن العقاد شخصية استثنائية بفكره ونقده ومواقفه فالكثيرون لا يعرفون العقاد والكثيرون سمعوا به ولم يقرؤوا إصداراته والكثيرون قرأوا النذر اليسير منها، وقال إن قراءة العقاد اليوم في ضوء المتغيرات المعاصرة تفتح آفاقاً جديدة للتفكير والفهم والوعي وتعمق الرؤية في تقييم دوره الثقافي ، فهو شخصية فذة وهو جهبذ عصامي وهو حبر عبقري.

وبدأ الباحث حديثه بالتأكيد على أن الحديث عن العقاد هو مغامرة غير مأمونة العواقب لأن العقاد كان في أبسط تعريف له قارة ثقافية بالمعنى الرمزي والحرفي أيضاً، فقد صال وجال في كل دروب المعرفة وأثار من المعارك مالم يثره أديب أو مفكر قبله أو بعده ويحتاج الأمر إلى ندوات وندوات للإحاطة بإنتاج العقاد  ( أكثر من 120 كتاب ) أو حتى مقاربته وليس تقييمه.

وقال إنه أختار العقاد الشاعر موضوعا لهذه الأمسية لأن هذا الجانب الأهم في حياة العقاد وفكره لم ينل في حياة العقاد أو بعد رحيله ما يستحق من عناية النقاد أو المثقفين، وكان الاتهام الظالم الذي أشاعه العديد منهم أن شعره صعب الفهم ويغلب عليه الجانب الفكري وينقصه تدفق العاطفة التي هي ماء الشعر.

والحقيقة أن شعر العقاد نفسه لم يكن مثل شعر معاصريه بل كان نموذجاً يتحدى لدى متلقيه قدراته كاملة، وفي مقدمتها عقله ووعيه وفكره، وقدرته على التأمل والتجريد، فلم يكن هذا النموذج - كما جاء بحق في تحليل الشاعر الكبير فاروق شوشه - مسرفاً في العاطفية كشعر الرومانسيين، ولا مسرفاً في الجلبة والجهارة والعناية بالفخامة كنموذج شوقي ومعاصريه، وليس هو شعر الحواس الظاهرة والقشرة الخارجية بقدر ما هو شعر المشاعر والعواطف العميقة ، وكان شعر اليقظة والوعي لا شعر الغيبوبة والحلم.

وقد أختار الباحث قصيدة ( نفثة ) لتكون نقطة بداية للاقتراب من شعر العقاد.

 تقول الأبيات الأولى من القصيدة

ظمآن ظمآن لا صوب الغمام ولا ................. عذب المدام ولا الأنداء ترويني

حيران حيران لا نجم السماء ولا ................. معالم الأرض في الغماء تهديني

يقظان يقظان لا طيب الرقاد يدا .................. نيني ولا سحر السمار يلهيني

 

ويختتم العقاد قصيدته بهذه الأبيات الثلاثة

سأمان سأمان لا صفو الحياة ولا ................ عجائب القدر المكنون تغنيني

أصاحب الدهر لا قلب يسعدني .................. على الزمان ولا خل فيأسوني

يديك فامح ضنى يا موت في كبدي ............. فلست تمحوه إلا حين تمحوني

 

وقال إن هذه القصيدة تصور أبلغ تصوير حياة العقاد الفكرية والوجدانية والروحية أيضا وهي في الوقت نفسه نموذج لما دعا إليه العقاد من أن يكون الشعر مرآة للشاعر أو صورة لبيئته وعصره وزمانه.

فالشعر عند العقاد يجب أن يخرج من نطاقه التقليدي الضيق الذي كان يرضى به طائفة محدودة من الأمة ويخرج إلى نطاق الحياة الفسيح الذي يأخذ منه كل فرد في الأمة بحظ ونصيب.

ويرتفع العقاد بمفهوم الشعر ليكون نفثة من نفثات الروح الإلهية، نفثة تفتح للشاعر مغاليق النفس الإنسانية، كي يحولها إلى أناشيد فياضة بالأحاسيس والمشاعر يتلقاها عنه الناس وكأنما فصلت من نفوسهم.

وقد صور العقاد هذا المعنى تصويرا دقيقا في مقدمته للجزء الأول من ديوانه إذ يقول: "الشعر يعمق الحياة، فيجعل الساعة من العمر ساعات، عش ساعة مفتوح النفس لمؤثرات الكون التي يعرض عنها سواك، ممتزجة طويتك بطويته الكبيرة تكن قد عشت ما في وسع الانسان أن يعيش وملأت حقيبتك من أجود صنف من الوقت"

ونجد هذا المعنى الشامل العميق في أبيات العقاد:

الشعر من نفس الرحمن مقتبس ....... والشاعر الفذ بين الناس رحمن

والشعر ألسنة تفضي الحياة بها ....... إلى الحياة بما يطويه كتمان

لولا القريض لكانت وهي فاتنة ....... خرساء ليس لها بالقول تبيان

مادام في الكون ركن للحياة يرى ...... ففي صحائفه للشعر ديوان

 

ولعل هذا البيت الأخير يوضح لماذا كتب العقاد ديوانه "عابر سبيل" ففي هذا الد يوان يفجر العقاد ثورته الشعرية الكبرى عندما يقرر أن الشاعر يمكن أن يرى شعرا في كل مكان إذا أراد : يراه في البيت الذي يسكنه وفي الطريق الذي يعبره كل يوم، وفي كل تفاصيل الحياة الصغيرة فكل ما يمتزج بالحياة الإنسانية هو مادة صالحة للشعر.

وبهذا المعنى الذي طبقه العقاد في ديوان كامل صدر عام 1937 نجد أنه سبق حركة التجديد في الشعر التي حمل لواءها صلاح عبد الصبور واحمد عبد المعطي حجازي من تبنى لغة شعرية هي لغة الناس البسطاءالتى ظهرت في قصائد هذا الديوان الفريد، وهي نفس اللغة التي أستخدمها صلاح عبد الصبور في قصيدته (الحزن) إحدى قصائد ديوانه (الناس في بلادي) الذي صدر في عام 1957 أي بعد عشرين عاما من صدور ديوان العقاد.

يقول صلاح عبد الصبور:

 

يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت، ولم يزر وجهي الصباح

وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح

فشربت شايا في الطريق

ورتقت نعلي

ولعبت بالزد الموزع بين كفي والصديق

قل ساعة أو ساعتين

قل عشرة أو عشرتين

 

واغلب ظني أن صلاح عبد الصبور ما كان يجرؤ أن يكتب بهذه اللغة البسيطة ويختار تفاصيل الحياة اليومية لتكون موضوعات قصائده لو لم يسبقه العقاد ويكتب ما كتب في ديوانه "عابر سبيل".

إن تأثير هذا الديوان الرائد لم يتوقف عند موجة التجديد في خمسينيات القرن الماضي، بل أمتد إلى شعراء قصيدة النثر في بدايات القرن الحادي والعشرين كما نجد في قصائد أحمد العسم فنقرأ له في أحدثها:

(يوميات/ إلى مريم ناصر)

 

ماذا تريد أن تسمع .... من يومياتي

وأنت ذاهب للنوم

!

اشتبكت مع الحداد إسماعيل

تنازلت عن مبلغ من المال

للغشاش صاحب البقالة

اشتريت ثلاثة صحون هريس

من المطعم الشعبي

استمعت للفرقة الشعبية

على الكورنيش

وقفت في تجمع السيارات

أظهرت بعض النصائح للشباب

وغادرت إلى أخر الكورنيش

............

 

كما توقف الباحث أمام مجموعة أخرى من القصائد   التي تقدم الوجه الآخر للعقاد   : شاعرا للعقل والوجدان ومنها قصيدة "يوم الظنون" ومن مطلعها:

 

يوم الظنون صدعت فيك تجلدي ........ وحملت فيك الضيم مغلول اليد

وبكيت كالطفل الذليل أنا الذي ........... ما لان في صعب الحوادث مقودي

وغصصت بالماء الذي أعددته ......... للري في قفر الحياة المجهد

لاقيت أهوال الشدائد كلها ............... حتى طغت فلقيت ما لم أعهد

نار الجحيم إلى غير ذميمة ............. وخذي إليك مصارعي في مرقدي

 

و منها قصيدة  "آه من التراب" التي كتبها يرثي بها الأديبة اللبنانية مي زيادة التي سحرت بجمالها وثقافتها كبار أدباء مصر وكان العقاد أحد عشاقها المحظوظين وهي قصيدة طويلة  تتألف من 80 بيت:

أين في المحفل (مي) يا صحاب؟

عودتنا ها هنا فصل الخطاب

عرشها المنبر مرفوع الجناب

مستجيب حين يدعي مستجاب

أين في المحفل (مي) يا صحاب؟

 

********************

شيم غر رضيات عذاب

وحجي ينفذ بالرأي الصواب

وذكاء ألمعي كالشهاب

وجمال قدسي لا يعاب

كل هذا في التراب. آه من التراب!

 

ويتجلى إحساس العقاد المرهف وإنسانيته التي تشمل البشر والحيوان أيضا وذلك في قصيدته "بيجو" التي يرثي فيها كلبه وهي أيضا قصيده طويلة تتألف من 60 بيت

 

حزنا على (بيجو) تفيض الدموع

حزنا على (بيجو) تثور الضلوع

حزنا عليه جهد ما أستطيع

وإن حزنا بعد ذلك الولوع

والله - يا (بيجو)- لحزن وجيع

 

******************

حزنا عليه كلما لاح لي

بالليل في ناحية المنزل

مسامري حينا ومستقبلي

وسابقى حينا إلى مدخلي

كأنه يعلم وقت الرجوع

 

إن شعر العقاد يكشف لنا الانسان الذي يتألم ويبكي ويحزن مثل أي انسان مفرط الحساسية تؤجج روحه لحظات السعادة وتشوي ضلوعه وخزات الشك فينهار ويبكي بكاء الطفل الذليل، وليس كما يبدو في كتاباته الأخرى "رجلا خارقا"  أو "سوبرمانا" لا يقهر. هنا نقف نستمتع بالشعر ونعجب به لأنه قريب جدا منا يعبر عن كل لحظاتنا الإنسانية ... لحظات الضعف والانكسار، ولحظات الانتصار والزهو. ولكن هذا يحتاج منا إلى إعادة قراءة شعر العقاد في هذا الضوء الجديد .  ولعل الذكرى الخمسون لرحيل العقاد التى تحل هذه الأيام ( توفى فى يوم 12-3- 1964 ) تكون فرصة مناسبة لإعادة قراءة منجزه الفكرى و الأدبى وخاصة إنجازه الشعرى الضخم الذى تجسد فى دواوينه الأحد عشر.

 

وتلى المحاضرة مداخلات مهمة شارك فيها الأستاذ التربوى عبد الله كندر و القاص و المسرحى محسن سليمان و الإعلامى الأستاذ خميس عبدالله و الأستاذ التربوى محمد بن جمعة آل سالم والشاعر أحمد العسم رئيس الهيئة الإدارية لإتحاد كتاب و أدباء الإمارات، فرع رأس الخيمة.