أمـة تستعيـد عنفوانـها

اعتماد الحكام العرب على الغرب لن يجديهم نفعا
*مهرة سالم القاسمي – القدس العربي 24-02-2011

 

عندما لبت الملايين في وطننا العربي الضميرالذي قال كفى ذلا وهوانا، لم يتوقع الكثيرون من أبناء هذه الأمة بل والعالم أجمع أن تتم الاستجابة لهذا الضمير في فترة وجيزة وبطريقة سريعة وغاية في السمو والحكمة والاتقان. هذا بالضبط ما أجمع عليه المحللون والمتخصصون في دراسة الثورات، من جميع أنحاء العالم. ولكن، انهم شباب الغد المأمول الذين تنبأ بعنفوانهم الشعراء، هم من بدأوا، فغيروا المسار وهم الآن يعيدون كتابة التاريخ بطريقة صحيحة، ويكشفون الحقيقة الناصعة لمقدرات هذه الأمة وأسباب كبواتها.

تونس الخضراء بدأت الثورة لأنها أدركت أن القدر لا بد له أن يستجيب لشعب لا تلين إرادته، فما أن رد محمد البوعزيزي صفعة الذل بتحد فاق تصور واضعي استراتيجية أعتى وسائل القمع والترويع، حتى انفجرت صرخة الجماهير مدوية، مصممين على وضع نهاية للمهازل التي استمرت طويلا، ليس ضد الشعب العربي في تونس فقط، وانما في مجمل بقاع وطنهم العربي الكبير، فهتفت الجماهيرإذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر، مبشرة بقدوم الثورة العربية الكبرى.

لم تكد تهدأ الثورة في تونس رغم تحقيق أهم أهدافها بسقوط رأس النظام، حتى هبت ملايين أرض الكنانة بقيادة جيلها الجديد، والتي سرعان ما التحم معها بقية الشعب بجميع مكوناته الطائفية والفكرية والطبقية، فتوحدت مآربهم لرفض الذل ونهاية الظلم والاستبداد، وصمموا معا يساندهم الجيش على أن يعيدوا لعروبتنا أهليتها، حيث انكشف للجميع ما كان معظمه مستورا من فساد ومظالم في الداخل، وخيانة للمبادئ والقيم، وخنوع وتبعية للأجنبي من حيث اهدار المكاسب الوطنية التي ضحت من أجلها أجيال الأمة وقياداتها التاريخيين.

لم تغير هاتان الثورتان الرائدتان في كل من تونس ومصر النظامين المقيتين فقط، وانما قلبت كل الموازين رأساً على عقب، فحق لكل منهما أن تتصف بالثورة الشعبية. ومن أهم انجازاتهما في هذه الفترة القصيرة هو اجلاء ضباب التضليل التي حجبت عن الوعي العربي الجمعي حقيقة الواقع المرير. هذا الوعي الذي تكالبت على صنعه أبواق الحاقدين على أمتنا وأتباعهم المارقين عليها، إلا أن الحق قد ظهر وزهق الباطل، وتيقن الإنسان العربي مواقع الخلل في بنيان أمته وآليات القوة لاصلاح هذا الخلل، فانكسر حاجز الخوف وهانت النفس والروح للفداء من أجل كرامة هذه الأمة وعنفوانها. ومن هذه الانجازات أيضا، ظهور المارد الصغير من ركام الاخفاقات وحالة الكمون، ليبهر جيلنا الذي ظلمه من حيث لا يدري، ونظر له متباهيا بجيله وما صنع في عصره الذهبي الذي مضى. فما أكثر الذين نظروا إلى الجيل العربي الجديد على أنه جيل اللامبالاة والاتكالية، جيل الركون للكسل والانغماس في ثقافة الاستهلاك، والبحث عن الرفاه مهما كان الثمن! ولكن تبين للجميع أن الأمر لم يكن كذلك، فتفاجأنا جميعا والعالم معنا، بأن الجيل الجديد قد تسلح بالوعي الخلاق، وأنه الجيل المتزن في فكره و القادر على ابتكار وسائل تحقيق أهدافه.

هكذا وجدناه، في مصر العروبة على الأقل، وهو يواجه جحافل أجهزة النظام الاجرامية. لم يقابل العنف بالعنف، ولم يختف كالجرذان مثل ما فعلت تلك الجحافل، بل تحمل المسؤولية وكوّن اللجان فملأ فراغ الأمن وحافظ على سلامة الأرواح والممتلكات، وضمد الجرحى ونقل الشهداء، كل هذا كان يتم بطريقة متقنة، استطاع بمعرفته للوسائل الحديثة للاتصالات أن ينقلها للعالم أجمع، بالرغم من منع النظام لذلك وجبروته. هذه الشعلة المتقدة التي انتظرها العربي بشوق، انتشرت نيرانها في معظم أرجاء الوطن العربي، وهي وان اتخذت أشكالا قد تختلف الواحدة عن الأخرى في بعض التفاصيل، إلا أنها اتحدت في مضمونها الداعي إلى التغيير والاصلاح، ورفعت شعارا يوحدها وما زالت تصر عليه 'الشعب يريد اسقاط النظام'، هكذا أرادت الجماهير، وهي ماضية فيه مهما كلف الثمن. ان عجلة الثورة هذه، لن تتوقف حتى تتحقق المطالب المشروعة لهذا الانسان الذي عانى طويلا من حالات المظالم والتهميش.

لا يوجد أمام الحكام العرب إذا، الا الاستجابة لهذه المطالب المشروعة، وارساء أسس المواطنة الحقيقية، التي تتمثل في المساواة بين أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات، ومنح المواطن حرية الرأي والفكر، وحرية اختيار من يحكمه وكيفية الحكم الذي يناسبه وذلك وفقا للاجماع الوطني الشامل، واحقاق العدالة الاجتماعية والبدء في التخطيط الواعي لاحداث التنمية المستقلة الشاملة، واستعادة حرية الوطن والكرامة الوطنية، والمكاشفة والمحاسبة، والانسلاخ عن التبعية للأجنبي ورفض كل إملاءاته الذليلة. بعدها، لا أعتقد أن يختلف كل شعب عربي مع من يولى حكم بلاده على أن يسمي دولته بما يشاء: ديمقراطية، علمانية، اسلامية، مسيحية، عظمى، صغرى، شعبية، جماهيرية، ملكية، مشيخة، امارة، إلى آخره من المسميات لهذه الكيانات التي زخر بها وطننا العربي.وفي حالة كهذه، لن يكون فراغا سياسيا يفصل بين الحاكم والمحكوم تملأه الأحقاد، ويتيح الفرصة للانتهازيين سلب البلاد والعباد، ولن تتراكم الاحتقانات الطائفية أو المذهبية بين مكونات هذا الشعب الذي جعل منه حكامه أعداء يتصارعون فيما بينهم حتى الفناء والتشظي.

على الحاكم العربي أن يعي جيدا أن العلم، وبكل ما وصل إليه من انجازات مبهرة، لم يتمكن بعد من صنع 'سوبر غلو' يضمن التصاق الحاكم بكرسيه إلى الأبد، أما اعتماده على قوى الامبريالية والتنافس مع أقرانه على كسب رضاها، فلن تجديه نفعا، إنما ذلك لا يمكن إلا أن يكون باعتباره حبلا يجره للهاوية ان هو طاوعها، أو خنجرا مصوبة خلف ظهره إذا ما أراد التراجع عما فرط فيه من حقوق أمتنا لهذه القوى الظالمة.

أنا واثقة أن الحكام العرب يدركون جيدا كما ندرك نحن المواطنين، كم هي غنية أمتنا، ليس فقط بمواردها المادية التي يسيل لعاب الامبريالية لها، وانما هي أيضا غنية بأغلى من ذلك بكثير، فهي تمتلك رجال العلم و الفكر والمعرفة وهم لو وضع كل منهم في مكان يستحقة لتبوأت أمتنا أرقى المكانة ولحققوا لنا العزة والكرامة وجنبوا اوطاننا الكوارث المتتالية التي كثيرا ما شاهدناها تفتك بالوطن وتفتته.

ان وطننا العربي في حاجة ماسة إلى منظومة من الآليات تلك التي بامكانها تأسيس مناخ سياسي واجتماعي وفكري مبدع، تعيد للمجتمع العربي بإذن الله، الاستقرار النسبي في كيانه والتوازن المتناغم مع مكوناته، والانسجام الموضوعي، على الأقل في حده الضروري مع المتغيرات السائدة، والتحفز والاستعداد لما قد يطرأ من جديد. غياب هذه المنظومة كان الناتج الطبيعي لما مرعلينا من واقع مزرِ ومهين عاشه المواطن العربي. فتحية للجيل الصاعد الذي قرر تغيير هذا الواقع وأعاد ثقتنا في أمتنا، والمجد والخلود للشهداء الأبرار.



'
* باحثة من الامارات

.

 


تعليقات القرّاء