معركة اللاوعي الجمعي لاختراق الثورات العربية
مهرة سالم القاسمي'

2011-05-25

 

'تحدثنا معا كصديقات عما كانت تطبل له وقتها بعض القنوات الفضائية عما يجري في ليبيا من حركات احتجاجية طلبا للإصلاح، التي تطورت في ما بعد إلى طلب تغيير النظام، استلهاما من ثورتي الشقيقتين تونس ومصر المباركتين. وقد دار الحديث مع الصديقات عن فجر الأمة العربية الجديد، واسترسلنا في التفاؤل، حتى انبرت إحدى الصديقات بأن لا نذهب بعيدا في تفاؤلنا، فلم تكن ثورة ليبيا، في ظنها، إلا حجر عثرة يعزل بين الثورتين التي فاجأت القوى الامبريالية، فحاولت هذه القوى ركوب الثورة الوليدة قبل فوات الأوان. سخرنا من الصديقة واستعذنا من تشاؤمها، واتهمناها بالاستغراق في نظرية المؤامرة، ولكنها أصرت وقالت بالحرف الواحد: 'ليبيا الثورة والثروة: الوليمة الدسمة، التي لن تدخر القوى الامبريالية جهدا لالتهامها، وهي التي في ظنهم ستفصل بين طموح التقاء الثورتين في صنع واقع عربي جديد يليق بحجم هذه الأمة وتاريخها'.
ولأننا، كبشر نحب أن نصدق فقط، ما نرغب فيه أن يكون، نظرنا بتفاؤل إلى مناعة انتفاضة الشعب الليبي على الوقوع في فخ المؤامرات، ووضعنا سيناريو مشرقا لها، مدعوما بتحليلات من التقت بهم بعض الفضائيات المتخصصة، التي صورت لنا إمكانية أن تنتهي هذه الأزمة خلال أسابيع معدودة، وسيتمتع بعدها الشعب الليبي بحقوقه العادلة في الحرية والكرامة. وصدقنا ذلك، والمرء كما أشرت يصدق أن يكون الوضع مثلما يحب، ولأننا أحببنا أن نرى هذا الشعب العزيز الذي عانى كثيرا من الاضطهاد والظلم من شخص لا أدري كيف أصفه بعد أن اعتبر نفسه على أنه هو 'المجد'، أما الشعب الذي قام بالانتفاضة، فما هو إلا مجرد 'جرذان ومهلوسين' 'معاذ لله. كما توعد أن يلاحق المحتجين 'بيت 'بيت، زنقه زنقة'. ولا أعلم كيف تحولت الاحتجاجات السلمية بعد ذلك إلى معارك ضارية غير متكافئة واجهها الشعب الليبي بصدور ابنائه العارية إلا من إيمان بالله يملؤها، وأصروا على أن لا يستسلموا مهما أحدقت بهم مخاطر المنون.'
'ثم كان فجر الجمعة في الإمارات العربية المتحدة، الموافق 18 آذار/مارس، من اللحظات التي حفرت بأنيابها بؤر القلق والتوجس في أعماق نفسي. حينها كان صدور قرار مجلس الأمن رقم'1973 للتدخل الدولي 'لحماية' المدنيين في ليبيا. اتخذ هذا القرار بعد تمنع القوى الامبريالية التي لا تعرف غير النفاق إظهارا والكذب سلوكا، إلى أن هب النظام العربي لنجدتها، من خوف انكشاف سقوطها الأخلاقي فتبرع هذا النظام بأغلبية أعضائه للتصويت في جامعتهم، فأزيل الحرج عنها بعد أن طلبوا ثم الحوا على التدخل 'الدولي' السريع، الذي ما هو إلا تدخل امبريالي سافر، وكأن هذا النظام لا يملك من الأسلحة التي انفق عليها مليارات الدولارات من ثروات الوطن ولكن! لا أحد يعرف لمصلحة من سيكون هذا السلاح، وإلى صدور من سيوجه؟
في فجر ذلك اليوم الذي جاء بعد ليلة مسهدة، سحبت ستارة النافذة التي فتحتها للاستماع إلى صوت الأذان الذي كان صداه يتخلل سفوح الجبل 'الأحقب' برأس الخيمة، حيث أعيش. ولطالما شخصت ببصري تأملا في شموخ هذا الجبل كلما ترنحت عزائم العرب تحت جبروت القوى الامبريالية. وقتها كان قمر ليلة 12 من شهر ربيع الثاني يلقي على الجبل شعاعا تقسمه قطع من السحاب، شعرت بالانقباض من انعكاساتها على ذلك الجبل الأشم، حيث أوحت لي بأن القادم لا يمكن أن يحمل معه صفو الزمان. وبينما كنت أرفع يدي تضرعا لله بأن يحفظ أهلنا في ليبيا، الواقعين بين سندان القذافي ومطرقة التدخلات الأجنبية، ذرفت دموعا غزيرة عجزت في البدء، معرفة دوافعها. هل كانت فرحا بتهليل الحشود الليبية احتفالا بمن كانوا يعتقدون أنه جاء لينقذهم من مجازر القذافي، أم هي دموع خوف من الشؤم القادم الذي صدق به حدس صديقتنا وما كنا من قبل نصدقها.
لم تكن الحالة الوجدانية التي عانيتها منذ تلك اللحظة على الإطلاق، مريحة. لقد تفاقمت الأوضاع البائسة في ليبيا من دون أن يبدو في الأفق ما يطمئن على مصير حرية هذا البلد سياسيا وصون استقلاله. هذه الحرية والاستقلال اللذان لم يدخر الأجداد جهدا من أجلهما فبذلوا الدماء رخيصة إصرارا لكي لا تظل أرضهم مرتعا للأجنبي، فقالوا على لسان شيخهم عمر المختار: 'نحن لا نستسلم ننتصر أو نموت'. فهل ستذهب تلك الدماء العطرة هدرا نتيجة شطحات القذافي ولجوء الثوار للأجنبي، خاصة أن هذا البلد وضع تحت البند السابع وما أدراك ما البند السابع، إضافة إلى تفرد الناتو بمعظم مفاصل هذا القرار، وهو ما يثير الدهشة ويبعث المزيد من التشاؤم.'' '
فمتى حلت التدخلات الأجنبية مشاكلنا، ألم يكن حلها في استرجاع الكويت هو ابتلاع خيرات الكويت وسيادتها واحتلال العراق وتقسيمه؟ وماذا سيؤول عليه الأمر بعد التدخل في ليبيا. من سيدفع فاتورة هذه الحرب، وكم ستكلف؟ ومتى ستبعد هذه القوات عن فضائها، وكيف؟
ومن غريب الصدف أنه قبل تسع سنوات وفي نفس الأسبوع من شهر آذار/مارس بدأ الهجوم على العراق لاحتلاله، والذي سبقه بسنوات قليلة القرار الأممي لوضع العراق تحت البند السابع، فدمر جيش العراق وسلاحه حتى تم الانفراد بالشعب الذي نكل به ونهبت ثرواته وما زال هذا البلد العريق، يئن تحت وطأة الاحتلال، رغم بسالة مقاومته، وما زال البند السابع الخاص به ساري المفعول رغم اعتراف المجتمع الدولي 'باحتلال الولايات المتحدة للبلد.
بينما في موقف مماثل حدث في الماضي القريب، استطاع صوت العقل أن يجد حلا جنب البلدين (العراق- الكويت) هذه الويلات، وذلك عندما رفض الزعيم الخالد جمال عبد الناصر التدخلات الأجنبية وقرر الحزم في إنهاء المشكلة عربيا من خلال الجامعة العربية، حينها رضخ الأشقاء لهذا القرار وحلت المشكلة التي تركها الاستعمار خلفه، من دون سفك قطرة دم. ألا يستطيع النظام العربي اليوم، وضع نهاية للنزيف المستمر لمقدرات هذه الأمة بشريا وماديا والسعي لنيل أو صون حرية واستقلال كيانات هذا الوطن الغني المترامي الأطراف؟''
إن الأرضية الرخوة التي أصبح عليها وطننا العربي نتيجة افتقاد عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم قائم على المشورة والصراحة، أدى إلى فقد الثقة بين الطرفين فسهل اختراق الوعي'وتشويهه من قوى تتلاعب بعقولنا وتزرع الشقاق بين مكونات هذا الوطن، تنذر بحدوث أخطار محدقة، تجلت تداعياتها بوضوح بعد نجاح الثورتين في تونس ومصر. فانفجرت مشكلات'طائفية في مصر، في الوقت الذي اعتقدنا أنها قبرت يوم أن قبر النظام السابق. وفي قطر عربي آخر جوبهت، مطالب شعبية بالقمع بعد أن صورت زورا على أنها قضية مذهبية، بينما في قطر عربي ثالث تحولت المطالب الشعبية إلى اختراق واضح دبرته المخابرات الأجنبية فأدى إلى الاقتتال غير المبرر بين أبناء الوطن الواحد، الذي تؤكده الوقائع، وتلاعبت وسائل الإعلام الموجه في تضخيم حقيقته فزادته استعارا. '''''''
في خضم هذه الأحداث المتلاحقة، ألا يمكن للمثقف العربي أن يبلور دورا يمكنه من تشكيل وعي اجتماعي قائم على معرفة الحقائق وجلائها ويكون عصيا على الميكانزمات الخفية، التي تحاول تشويه الوعي الجمعي، والتي شئنا أم أبينا نكون عرضة للوقوع في براثنها؟
'* باحثة من الامارات

.

 


تعليقات القرّاء

 

 

الاسم ســـيف آل نــصر

 

شكرا لك يا أستاذة مـهرة

 

كنت من حين لآخر اقرأ مقالاتك الجيدة على صحيفة القدس العربي و الحين فقط وجدت موقعكم هذا.

شكرا للكاتبة على فهمها السليم لكل من عروبتها و إسلامها عنصري هويتنا الحضارية و لإيمانها الصادق بوحدة وطننا العربي

 

***

 

الاسم أمازيغية عربني الاسلام

صعب جدا

 

صعب جدا تحقيق هذا المطلب (ألا يمكن للمثقف العربي أن يبلور دورا يمكنه من تشكيل وعي اجتماعي قائم على معرفة الحقائق وجلائها )

لان هذا المثقف هو بنفسه ضل الطريق... لم يعد سوى باحث حثيث عن مصدر رزق ولو كان فيه طأطأة الرؤوس ...انحرف دوره الطلائعي

في ظل قمع وبطش السلطة ..لقد اصبح وعي مشاكلنا ومصائبنا ممنوع علينا فما بالك بايجاد الحلول او حتى بدائل ..قد تبدو بصائص امل محتملة للتغير او حتى لثورات قد تكون في بدايتها صحية لكن

 ... يتغير مسارها  ما دام العالم يحكمه الكبار أما نحن فندور في فلكهم وبسياستهم شئنا أم أبينا .. وثورة ليبيا وثوار ليبيا لن ينجحوا اذا لم يخضعوا لهذه السياسة وقس علي باق الثورات وستبرهن لنا الايام القادمة صدق هذا . .

 

****

 

الاسم مهرة سالم القاسمي

ردا على امازيغية اعرفها

 الاخت الامازيغية بناءاعلى رغبتك كما حدثتيني هاتفيا، للرد على تعليقك، اولا اشكرك على المشاركة واحترم رأيك الذي يخصك ولكن لست ملزمة ان اتبنى هذا الرد، فقطعا وجهة نظري تختلف عن وجهة نظرك ولكل خلفيته الايديولوجية الخاصة وبناءا على ذلك انني عربية حتى النخاع وأؤمن بأن هذه الامة التى بعث الله فيها اشرف البشر برسالة اضاءت الكون كله قادرة ان تصل الى المكانة التي تستحقها لينضوي تحت رايتها كل المحبين لرسول الله ورسالته وكذلك كل الاحرار العرب من اتباع الديانات السماوية الاخرى الذين يأبون التخلي عن هذه الامة التي يتكالب عليها الاعداء للنيل من سيادتها وخيراتها وان غد لناظره قريب