صـــفقة بيع المقبرة

 

 إن أكثر الأشياء مفارقة هو الدلال مكحول الذي يجلس على مقعده المتحرك وراء درج فارهة في مكتبه الوفير في احد ضواحي رأس الخيمة.

وكان مكحول ينظر من خلال ثقب خفي أحدثه في الجدار الخلفي لمكتبه الواقع بالقرب من مقهى منور التي يرتادها المواطنين وغيرهم من الباحثين عن فرص الاستثمار.

ولقد أكسبه النظر من خلال ذلك الثقب  مئات الآلاف من الروبيات العابرة للقارات، فقد باع منازل أهم الأسر الكبيرة في البلد، وباع جزء لا يقدر بثمن من أراض ورثوها عن أبائهم وأجدادهم، وأخيرا ً فرط بمقابر البلد وما تبقى فيها من هياكل وعظام.

وفي ما مضى، كان مكحول يجلس على حصير متآكل تتناثر سعفاته من كل صوب كلما حرك مؤخرته، وكان منزله عريشاً متواضعا ً مبنيا ً من سعف النخيل، على سفح أحد الأودية في جبال خت.

وذات صباح أمتطى صهوة حماره الأشهب، وجلس على الخرج الخالي، مؤرجحا ً رجليه تارة إلى الأمام وتارة إلى الخلف، وانطلق نحو المدينة وهو يغني : خـت يا أرض الجدود ...يا غاية العهد الجديد، فيك ماضينا التليـد، وفيك مال ولود .. وبعد مسار طويل وصل ليلا ً إلى رأس الخيمة، وأخذ يتجول في السكيك والحارات حتى اسـتأوى منزلا ً  مهجورا ً، فقضى ليلته الأولى حتى الصباح، ومع بزوغ الشمس خرج وهو يقود حماره متفحصاً الأبواب والنوافذ حتى وصل إلى سوق العرصة، فوجد الناس يتدفقون إلى المقاهي، ويشربون الشاي، ويدخنون الأراجيل، فأذهله الدخان المنبعث من الأفواه، والمتصاعد رويداً رويداً إلى الأعلى.. فجلس مستنداً على جدار أحد الدكاكين، متأملاً وآملا ً أن يبتسم له الحظ ويرفعه إلى أعلى الدرجات، وبينما هو جالساً مرت به مئات الوجوه دون أن يأبه به احد، فشعر بالمهانة وانتابه فكر جنوني لعل بمقدوره أن يشتري بيوت المدينة برمتها ويطرد من فيها، وما إن اختمرت الفكرة حتى فز مترجلاً ، ونادى عدة مرات دون أن يرد عليه أحد حتى رأى  رجلا ً ضخم الجثة فتوحه إليه وصاح به ... هل تدلني على من يشتري الأراضي بمساحات واسعة في هذه المدينة ؟ فأشار عليه البدين إلى ناحية الشارع المقابل، حيث  كان يجلس أشخاص غرباء متجهموا الوجوه، يرتدون السراويل والقبعات، فشرع في عبور الشارع حتى التقى بهم، وما إن صافحهم حتى صاح قائلاً :

وأخيرا وجدتكم، من أين جئتم ؟

فرد كبيرهم: جئت وأفراد أسرتي من أواسط جبال الهملايا حيث الكهوف والذئاب وجحور الثعالب والزواحف، ونرغب في التنقيب عن هياكل أجدادنا العظيمة التي انطمرت في هذا المكان إبان الحملة البريطانية على رأس الخيمة في عام 1820 دون أن يتم حرقها .. ثم عرضوا عليه أن يبتاعوا البيوت والأراضي، وأخرجوا له كما ً هائلا ً من الأموال.

وبينما كان مكحول منهمكا ً في عد تلك الأموال التمح من على بعد سيارة تاكسي، فأشار عليها بالتوقف، فراحت تقترب شيئا ً فشيئا  إلى أن توقفت أمامهم تماما ً، فركبوها آمنين فتحركت إلى ذاك الطريق الرملي الصغير الملتوي المؤدي إلى شمل والعريبي والقصيدات والحيل وخت. وازداد تردد هؤلاء الغرباء على تلك المناطق  حتى تملكوها، بينما ظهرت مظاهر النعمة والثراء على مكحول،  مثل ارتداء الملابس ذات الماركات المميزة والنعل الهرارية، وساعات الذهب المطعمة بالألماس، وركوب السيارات الفارهة،  ناهيك عن التمترس في ذلك المكتب العتيد القريب من سوق العرصة بعد أن انفتحت شهيته في تسييل بيوت الأهالي وأراضيهم إلى أموال نقدية.

ومع تدفق الأموال النقدية، تملك الغرباء ذوي السراويل المزركشة جل مباني الآباء والأجداد وتمترس مكحول في مكتبة يرصد القادمون الجدد من ثقب الجدار، وبينما هو كان مأخوذا ً بغزارة الثروة التي هبطت عليه التمح من خلال الثقب كبير المستثمرين يهبط من سيارة فارهة، ويخطوا بتؤدة مترجلا ً نحو المكتب، فهب مكحول واقفا ً احتراما وإجلالا لاستقبال رب نعمته، وأجلسه على المقعد الوثير الذي أعد لمثل هذه الزيارات.

هز كبير المستثمرين رأسه يمينا ً ويساراً ، وحرك عيناه المستديرتان واستدار نحو مكحول في وقت ظل فيه مكحول قانطا ً محتاراً لا يجد تفسيرا ً منطقيا ً لهذه الزيارة.

وبعد برهة من  التلعثم والتمتمة سأل مكحول مستفسراً :

هل انتم راضون عني، وعن كل ما تم شراؤه لكم ؟

قال المستثمر : نعم يا مكحول ، أنت عين الرضى، ونحن جميعا ً راضون عنك وعن كل ما اشتريناه  من منازل وأراضي وقرى وسلاسل من الجبال والشطآن والخلجان، وهذا فعلا مكانا ً نطمح إليه،  لكن بقي هناك شيئا آخر نريد أن نشتريه منك.

رفع مكحول رأسه مستغربا وقال : مني ؟ لقد بعت لكم كل شيء ، ولم يبقى لدي شيء آخر قابل للبيع.

قال المستثمر : صحيح إن هذا الشيء لم يكن متضمنا في عقود المبايعات، لكن نحن على استعداد لدفع ما تطلبه من ثمن نظير صفقة البيع الجديدة.

قال مكحول : قل لي بالله عليك، ما هو هذا الشيء ؟

ابتسم المستثمر، وحرك شنباته الطويلة، وانحنى على درج المكتب واخرج من جيبه رزمة كبيرة من الروبيات، ورمى بها على الدرج وقال : هذا مبلغ عشرة ملايين روبية وهو لا شك مبلغ معقول لشراء ما نريد!

قال مكحول : ماذا تريدون أن تشتروا بهذا المبلغ ؟

قال المستثمر: نريد أن نشتري مقبرة البلد وعظام آبائك وأجدادك المدفونون فيها.

تظاهر مكحول بالغضب وقال : كيف لي أن أبيع مقبرة الجدود ؟ هل أنتم جادون في هذا الطلب ؟

قال المستثمر : هذا مجرد بيع وشراء، وبسرعة مد يده يستعيد رزمة الأوراق النقدية ...فمسكها مكحول بعد أن زالت عنه كل مظاهر الغضب وقال متمتماً  : لقد قبلت العرض، لكن عليك بزيادة المبلغ حتى يتلاءم وقيمة الهياكل العظمية ...وما هي إلا دقائق حتى يسلمه مستند بيع مقابر المدينة ..

أخذ المستثمر تلك الوثيقة وطواها وخبأها في جيبه وخرج مسرعا ً من باب المكتب، واستقل سيارته ومضى إلى سبيله.

 ولم تمضي على عملية بيع المقبرة فترة طويلة حتى توفي والد مكحول، فغسلوه وصلوا عليه، وانطلقوا به مشيعين إلى المقبرة. وعند بابها فوجئ المشيعون بأن جثث أهلهم وذويهم قد أحرقت وتحولت إلى رماد، فانفجر مكحول في بكاء شديد يحرق القلب، وبدت عليه مظاهر الخوف والبؤس وأخذ يتشنج حتى ارتعش واصطكت أسنانه فالتـقـفـته نار  المقبرة.


تعليقات القرّاء