قصص قصيرة

محمد خليفي – تونس

 

-1-

جنــــون

ما يحدث في الواقع يمكن أن يكون في منتهى الجمال أو منتهى القبح..لكن مالذي يحدث عندما يتدخل الوهم في حياتنا؟ ربما يصبح هو الأساس و يهمش الواقع على قارعة الوجدان،لا يهم ان كان سيؤدي الى السعادة الأمر سيان..الواقع و الوهم،المعقول و اللامعقول،الوعي و اللاوعي،طريقك إلى الجنون.. أو ربما الإدراك!....

مشى بخطوات ثقيلة و هو يجر رجليه جرا ثم ألقى بجسده المتهالك فوق إحدى المقاعد. تسلل إلى أنفه عبير الأزهار المنتشرة في المنتزه. الحمد لله أن الجلوس في هذا المكان مجاني..حاول الإسترخاء لكن عبثا يفعل ذلك لأن حربا ضروسا تلتهم عقله و وجدانه..سيل من الأفكار يتدفق دون أن يستطيع صده و قد راوده إحساس بأنه يسير نحو هاوية الجنون..

هل نحن محكومون بالأمل؟

لا يجد إجابة عن السؤال لأنه لا يعلم أساسا إن كان متفائلا أم متشائما،كل ما يعرفه عن نفسه أنه إنسان حائر..معذب. مر قبالته شاب و فتاة تشابكت يداهما في حب،ظل يتابعهما بعينيه حتى إبتعدا. هو أيضا يحب. أجل، له حبيبته التي ينتظرها هنا كل يوم، على الرغم من أنها لا تأتي. ربما نسيت موعد اللقاء أو مكانه. ربما شغلها شاغل هذ الفترة. لماذا التساؤل والشك؟ هو يحبها و كفى.

لماذا لا تكون حبيبته بجانبه؟ يريد أن يغادر هذه الحديقة. حديقة الأحلام. أن يأخذها معه كي يتمشيا على الشاطئ ويذهبا إلى السينما و يتشاجرا ثم يتصالحا و يعانقها قبل أن يوصلها إلى المنزل، و أن..

قصفت دماغه كلمة كبيرة.."حرام!"..ماذا؟ حرام؟! لكنه يشاهد ذلك يحدث أمامه كل يوم في الشوارع الجانبية وعلى شاشة التلفاز، لماذا نقول شيئا و نفعل شيئا آخر؟

هه. كفى أوهاما أيها المخبول لقد تركتك حبيبة العمر..كيف تريدها أن تظل بجوارك و أنت عاطل عن العمل؟ أصبح الحب اليوم يشترى نقدا. ما ذنبي أنا حين وجدت في هذا الزمن المطحون؟حيث تموت الأحلام قبل أن تولد ويتكسر الطموح أشلاء على صخرة الواقع.

من أنت؟ ما أنت؟ ماذا تريد أن تكون؟ ما سبب وجودك إذا لن تفعل شيئا و لن تترك بصمتك في هذه الحياة؟ ما الفرق بينك و بين تلك الشجرح إذن؟ حتى الشجرة تجعل الهواء نقيا و تظل الناس بظلها..هنالك سبب يجعلها موجودة و مهمة تقوم بها في هذه الحياة..

لا حل غير الهرب من هذا المكان: الهجرة نحو الغرب..نعم..مهلا. الغرب يرزح تحت وطأة أزمة طاحنة. أبناء الغرب يتسكعون دون عمل. ما حاجتهم  إليك؟ حتى لو هاجرت. أتخدم غير المسلمين و تعيش بينهم؟ أين إنتمائك؟ أين أنت من الإسلام؟

إذن ماذا ستفعل؟ إلى أين الذهاب؟ إلى كوكب آخر؟!

نبتت للتساؤلات الكثيرة سيقان مفصلية مقززة و أخذت تخرج من رأسه و تزحف على بدنه وتحولت إلى حشرات سوداء..

تلاحقت أنفاسه و قفز من المقعد و هو يمسك برأسه بكلتى يديه صارخا:

"ماذا أفعل؟!!أنقذوني!آآآآه!!!!"

نظر إليه الناس نظرات فزعة و احتضنت أم ابنتها قائلة: "لا تخافي يا صغيرتي لنغادر المنتزه.. إنه مجرد مجنون"

 

-2-


أنا التلميذ،أريد أن أغير العالم..


هكذا، إحتلت هذه الفكرة مركز الصدارة في معسكر أفكاره المتضاربة. لا يعلم متى حدث ذلك، وكيف سيحققه، ولماذا؟..
بدا له الأمر مضحكا بادئ الأمر،ماذا يفعل كي يغير العالم نحو الأفضل؟ قرر أن يضاعف جهوده في الدراسة لكن كل ما يحيط به يدعو للتشائم بامتياز! لاحظ أن أصحاب الشهادات العليا يعملون "جنبا إلى جنب" في حظائر البناء، كيف تنحدر قيمة العلم و تغرق في هذا المستنقع؟ تصيبه الحيرة وهو يرى المثقفين كرويا (تلك هي الثقافة الرائجة حاليا) يتحدثون عن صفقات بملايين الدولارات للاعب كرة "قدم" محترف..يالها من مهزلة..
عند انتصاف النهار غادر التلميذ المعهد، استقل الحافلة و لم يجد كالعادة مكانا شاغرا فظل واقفا.. يبصر شابا وفتاة يتبادلان الرسائل القصيرة عبر الهاتف المحمول وهما جنبا إلى جنب. كلاهما يحدق في شاشة الجوال الصغيرة و قد تسمرت عيناهما بشكل غريب على المزيج اللغوي الهجين من الأرقام و الأحرف الأعجمية..يظن الشاب أن علاقة مباشرة أصبحت ممكنة مع الفتاة فيضع يده على كتفها لكنها تصفعه!..من المؤكد أنها اعجبت بشخصيته المطلة عبر الرسائل القصيرة لا بشخصه. التكنولوجيا فيروس مريع يلتهم كل شيئ جميل في حياتنا..
الحر شديد و العرق يتفصد عن الأجساد فيزيد في رخاوتها و فتورها..يقرر التلميذ النزول من الحافلة و إكمال بقية المسافة مترجلا. يلمح إحد الشباب يقود سيارة فارهة بينما يعاكس فتاة تمشي على الرصيف. لا ينتبه إلا عندما يخالف شارة المرور و تدهسه شاحنة..لا شك أنه سيلقى حتفة.
يقتني صحيفة و يجلس في أحد المقاعد العمومية، يلقي نظرة على العناوين:
"
إنجازات رائدة و أسطورية".. يقرأ مقالا لصحفي يهلل للحكومة و في الصفحة الموالية يشيد بمواقف المعارضة مع توقيع..نفس الصحفي..لن يكون صحفيا إذا أراد تغيير العالم،الصحافيون أصبحو كالعرائس التي تتحكم بها أياد عليا. إنهم مخربون .. يلقي بالصحيفة على قارعة الطريق و يستكمل مشوار العودة باتجاه المنزل وقد أحس بأن الشمس قد إنتصبت فوق رأسه بالذات مرسلة أشعتها اللاسعة.
يصل إلى البيت لاهثا، فيعثر في المدخل على فواتير إستهلاك الكهرباء و الماء و الهاتف. يحملها إلى والده الذي وجده يغط في نوم عميق جراء العمل المضني. يفتح جهاز التلفاز عله يجد ضالته في أحدى القنوات.
تعرض إحدى المحطات دراسة علمية تقول "في السنوات المقبلة سيعاني 80% من سكان العالم من ظروف معيشية قاهرة حيث أن الماء الصالح للشرب في طريقه نحو النضوب. إضافة إلى الإرتفاع المستمر في درجات الحرارة بسبب الإحتباس الحراري الذي يتسبب العالم المتقدم بنسبة 90% في إستفحاله و استمراره في مقابل تمتع الدول النامية بنفس النسبة ..من الضرر!"
لله درك أيتها العدالة الإجتماعية! جعلت العولمة خُمس سكان العالم يستحوذون علي أربعة أخماس ثروته مقابل التعرض لعُشر الخطر الذي تتعرض له البشرية. هذه هي يوتوبيا العولمة التي حلت محل مدينة الفارابي الفاضلة. يواصل مقدم البرنامج شرحه للدراسة "و في القرن الواحد و العشرين سيقفز عدد سكان العالم إلى ما يربو على التسعة بلايين نسمة مع العلم أن كوكبنا لن يقدر على تلبية حاجيات سكانه بالكامل، مما يثير تساؤلات عدة"..
ينتقل التلميذ إلى قناة أخرى،أثارت هذه الدراسة غضبه،لأن العلماء يبتكرون مادة ال c.f.c  التي تخرب الغلاف الجوي ثم يقومون، هم أنفسهم، بالقيام بدراسات تحذر من الخطر الذي يتهدد كوكبنا! لن يكون التلميذ عالما إذا أراد أن يجعل الشمس تشرق من الغرب، لأن العلماء بدورهم ..مخربون..
تعرض محطة أخرى نشرة إخبارية مطولة.. قتل و دمار و كوارث في كل مكان.. أحدهم يصون الشرف بسكين المطبخ، وآخر يرغب الغرب في الإسلام بتحويل جسده إلى قنبلة.. هؤلاء الإعلاميون يثيرون غيظه أيضا، لقد حولوا الإكتئاب إلى وباء عالمي بسبب الأخبار الكارثية التي يذيعونها. أقسم التلميذ على تجنب الإعلام الذي يتاجر بأعراض الناس، لأن الذي يريد تغيير الدنيا عن طريق الإعلام سيكون مخربا أيضا..
ضاقت نفسه بالقنوات "الهادفة" فأراد مشاهدة بعض الأغاني (أصبحت الأغاني اليوم تشاهد و لا تسمع) فتسللت إلى أذنه الكلمات ذاتها التي يسمعها في كل أغنية..مع تغيير في الترتيب. أحس التلميذ أن فناني هذه الأيام قد حولوا قيمة الحب الخالدة إلى جسد اغتصبوه على الناصية. فاتخذ قرارا آخر بألا يصبح فنانا لأن فناني العصر "يخربون" عقول الناشئة وقيمهم.
أحس بدوار شديد بفعل مشاهدة التلفاز فأغلقه و اتجه نحو الحاسوب. لا شك أنه يستطيع قلب العالم عبر اختراع القرن. يتصفح شبكة الإنترنت و يطلع على بريده الإلكتروني حيث تصله دعوات من أناس لا يعرفهم بأن يصبحوا أصدقاءه. إذا بدأت علاقة بين شخصين بهذه الطريقة فكيف ستنتهي؟ يزور موقعا دينيا يقدم فيه رجال دين "مرموقون" (أصبح هنالك رجل دين مرموق و رجل دين مبتذل) استشارات دينية. يكفي أن ترسل رسالة قصيرة بدينار واحد حتى تصلك الإجابة الوافية عن استفساراتك و تحصل على فتوى ذات الإستعمال الواحد. اليوم أضحى الدين استثمارا يدر على الأمناء عليه أموالا لا غرو أنها "حلال طيب". يستبعد التلميذ اتباع الطريق الإسلامي الجديد الذي يختصر الدين في شاشة أو يشوهه في شكل حزب يطمع في السلطة. لقد تحول المشيخة إلى مخربين للإسلام.
يكاد رأسه ينفجر. يخرج من البيت و هو يسمع سباب أبيه بسبب استهلاك الكهرباء المشط!
يعدو في الشارع كالمجنون... يستقل سيارة أجرة تقله إلى ضواحي المدينة حيث شاطئ البحر. لا أحد هنا لأن الفصل شتاء ...شتاء جديد أيضا..خال من المطر.
يجلس قبالة البحر ربما توصله الأمواج إلى ضفة أخرى. إلى أي شخص أو أي شيء يؤمن به كي يحس بأنه إنسان! تذكر أن الإنسانية اعدمت منذ زمن وأن قيمة العبد أصبحت تقاس بالقصور الفخمة و السيارات الفارهة وأرصدة البنوك أو بالأحرى إلى ارقام فحسب. ينهض التلميذ ويلج البحر بثيابه. يتقدم دون توقف. لماذا يتوقف؟ كل البشر يفعلون هذا بطريقة أو بأخرى. يرى إلى جانبه الصحافيين و رجال الدين و الموظفين. الكل يتخبط في المياه لكنهم يواصلون المضي نحو الأمام.
احتلت رأسه فكرة جديدة حين ولج حلقه الملح وأظلمت الدنيا حوله:
"
حين عبد الناس الأصنام أغرقهم الله بالطوفان وأنقذ سيدنا نوح المؤمنين..اليوم يعبد الناس المادة..فأين أنت يا نوح كي تنقذنا؟اين أنت؟؟"

 

         محمد خليفي     hammadi1992@gmail.com

                   


تعليقك