عقـال أحمـر

قصة قصيرة للأستاذ محمد شكر

من بعيد لاح لي وجه عبيد، كان وجهه أسمر، مقطب الحاجبين، متهدل البراطم، حاسر الرأس،  فبدى لي شعره الأكرد  كحبات فلفل سوداء نثرت على طاسة.

  كان الوقت عصراً، وكنت أتمشى مع صاحبي نحو دكان صانع العقلة في عرصة السوق برأس الخيمة، وكان علينا أن نمشي بين باعة الليلام والتلي القديم ونحن ننظر إلى رؤوس الباعة الملفوفة بالشالات دون أن يظهر عليها عقالاً.

 وكان عيد، صانع العقلة، الذي يقضي جل وقته جالساً على دكته المستديرة، يلف صوف المرعز على حبل دائري، رجلاً فقيراً، محدود الرزق، لا يتقاضى إلا دريهمات قليلة.

  جلس عيد على دكته المستديرة، وأحاطت به أخلاط من الناس، وأبدى كل واحد منهم رغبته في اقتناء عقالاً للحشمة والشرف.

 شمر عيد عن ساعديه،  وانهمك في نسج خيوط عنكبوتية من شعر الخرفان، تحركت أنامله بدقة في مسار دائري مترادف،  حتى تكونت لديه دائرتين أطبقهما على بعضهما البعض وشكل منهما عقالاً.

رفع عيد العقال عالياً وقال : أنظروا إلى هذه الدائرة، إنها ترمز إلى الزمان العتيق، ومن هذه الدائرة جاءت مفاهيم الحساب، خاصة مفهوم الصفر، ومن يضع على رأسه صفراً، يفتح له بابا ً راسخا ً من الفهم.

اشرئبت كل الرؤوس التي تزينت بالعقل، إلا رأسا ً حاسرا ً. أخذ صاحب ذاك الرأس يستهين بهذا الأمر ويقول : إنه وهم كبير،  صنفه الوارثون وصدقه الحارثون حتى انغرس في وعي الجميع وتربع على رؤوسهم.

هز عليه رأسه وقال: صحيح إن العقال زي موروث، وغالبا ً ما يرمز إلى الحشمة والشرف، ويرتديه الحارث والوارث. وبينما يتغنى الوارث بغناه ويتمسك بماضيه وما أنجزه  أجداده، يتطلع الحارث إلى المستقبل ويعمل لينمو ويتطور حتى يصنع التاريخ.

قال الحاسر: إن العقال صفران،  والصفران هما حلقتان مفرغتان ومن يضعهما على رأسه يدور في هاتين الحلقتين المفرغتين، ولكي نخرج من هاتين الحلقتين المفرغتين، نحن بحاجة إلى عقال حديث يتفاعل مع تطورات الحياة العابرة للقارات.

نظر صاحبي، وكان يرتدي عقالاً اسوداً وصاح قائلاً : ألا تعتقد ان هذا العقال الذي يتوج راسي أصبح في نظر الجميع رمزاً عزيزاً على القلب. نظر حاسر الرأس إلى صاحبي وقال: لماذا تصر أن تلبس عقالاً اسوداً ؟

قال صاحبي : إن ذوي العقال الأسود هم أصحاب الذهب الأسود وهم من أغنياء القوم، ولهم طائرات تعبر القارات ولهم في كل أرض قصر، ويتناولون الطعام على أطباق من ذهب.

قال حاسر الرأس: لكني أنا من طبقة الفقراء، والفقراء العاديين لا يحتاجون إلى لبس العقال، لأنهم يعملون، والعقال يعيق حرية الحركة والعمل لديهم، ناهيك أي عقال لا يقي حر الصيف ولا برد الشتاء.

قال صاحبي: قولك صحيح ....إن العقال لا يقي حر الصيف ولا برد الشتاء، لكني من أبناء الذوات، وليس لي حاجة إلى العمل، وكل ما أريد هو أن أقلد الأغنياء والبس عقالاً أسوداً، لأن العقال الأسود هو رمز الحشمة والشرف.

قال حاسر الرأس : إذن أنت مقلد، وتريد ان تلبس عقالاً اسودا ً لا ينسجم ولون بشرتك، فلماذا لا تكون مبدعاً تبتدع موضة جديدة، وتضع على رأسك عقالا ً رماديا ً أو أحمراً , أصفرا ً، اخضراً ، أو أزرقا ً أو تلبس عقالا ُ أبيضا ً ولربما يناسبك لون قوس قزح.

قال صاحبي : ولكنك أنت لا تلبس العقال ...والأفضل لك أن تضع على رأسك قبعة.

قال الحاسر: أن القبعة زي غربي ...والغربيون يرفعون قبعاتهم عندما يحيون يعضهم بعضا، وأنا لا أريد أن أقلد الغربيون ... لكنك أنت مقلد،  فلماذا لا ترفع عقالك عندما تحيي أصدقائك؟

قال صاحبي : هذا مقترح وجيه،  ولطالما تعددت ألوان القبعات فالأجدر أن تتعدد ألوان العقلة ... ثم وجه كلامه على عيد قائلا : كل  ما أطلبه هو عقال أحمر ... ..ألا توجد طريقة احصل بها على عقال احمر.

قال عيد: أجل توجد طريقة ولكنها محفوفة بالمخاطر ولا استطيع ان أخبرك عنها.

قال صاحبي: أرجوك ... أخبرني عنها، قلها وتوكل فأنا لا أخاف.

قال عيد: إذا كنت تريد ترغب في الحصول على عقال أحمر، فما عليك إلا أن ترفع عقالك وتدخل في معركة تستخدم فيها العقلة.

ابتلع صاحبي ريقه وقال:  إن هذا لثمن باهظ للحصول على عقال أحمر، والأجدر بي أن أتعقل وأعيش حياة هادئة وبعقال اسود وبدون شجار.

لكن شجار ما قد اندلع بسبب تافه، استخدمت فيه العقل، وفقئت فيه المقل.

هز حاسر الرأس رأسه، ورفع دشداشته واخذ يتوارى بسرعة ويتمتم " سوف لن ينفعك عقالك، يوم يحين اعتقالك". أما صاحبي فقد تسمر في مكانه حتى ضاعت ملامحه وسط الجمع الحاشد، ومع تدافع الناس هزه أحد أفراد الشرطة فسقط عقاله، سارع إلى التقاطه، كان نصف عقال.

ضحك الحاسر، ضحكة ساخرة وقال : أنصحك بارتداء ما تبقى من عقالك.

قال صاحبي وهو يشيح بوجهه كمن أراد أن يدسه عن الناس: ربما يشاهدني الآن أكابر القوم وأعيان البلد، وينهالون علي بالأسئلة. لماذا تلبس نصف العقال؟

قال الحاسر :ما الفرق بين عقال كامل ونصف عقال؟

قال صاحبي:  عقالي  هو عنوان العز والشرف، وفقدان نصف العقال يعني فقدان نصف الشرف.

قال الحاسر:عليك إذن المطالبة برد نصف الشرف، واعتقد إن هذا النصف المفقود لا يقدر بثمن.

قال صاحبي : قيمة العقال الجديد هو خمسون درهماً ، وطالما وقع عقالي أرضاً،  فأنا أريد أن اشتري عقالا ً جديداً ، ويمكن عندها الوصول إلى تسوية ، فرد الشرف يتطلب خمسون درهماً.

قال الحاسر: لا أيها المجنون، أي شرف هذا الذي يقدر بخمسون درهما ً،  يتوجب عليك رفع القضية إلى المحكمة، وتوكيل أشهر محامي، لرفع الدعوى والمرافعة أمام القضاء. هيا اذهب إلى محامي موثوق يمكن أن توكل إليه مثل هذه القضية الخطيرة حتى يتحمل مسؤولياتها وصون أماتها.

وبعد أن بدأت شمس الغروب بالأفول، وعلى صراخ باعة التلي المتجولون في السوق، التمحت وجه صاحبي، كان وجهه متورماً، وشعر رأسه منكوش ، ودشداشته ممزقة، وخيوط  فروخته قد تقطعت وتناثرت حول رقبته ولم يبقى على رأسه إلا نصف عقال.

تطلعت عن كثب حتى استقرت عيني على دكة عيد، فرأيت عقله تتطاير من على الرؤوس وسمعت ضربات العقل وهي تختلط بأصوات حادة. ثم جلت بناظري  إلى سوق العرصة، كان الحدادون ينفخون الكير، وشرارهم يتطاير ليطال بقية الباعة، وكانت بائعات الرويد والجزر يغطين وجوههن ببراقع سوداء، ويضعن على رؤوسهن وقايات مزركشة ذات ألوان زاهية،  والمكان يزهو بالمارة، رجالا ًً ونساء يتعقلون بين أكوام الحطب وأكياس الفحم وضمائد التمور، وفي الجانب الأبعد من سوق العرصة، كان السماكون يضعون على رؤوسهم عمامات كريمبو وهم ينادون   هو ....هو، توه جاي.

استقبلني صاحبي وهو يتحسس نصف  عقاله المثبت على رأسه وبحزن عميق أثنى رقبته ووطئ رأسه وأطلعني على نصف العقال وفاجأني بالقول: لقد سقط عقال العز والشرف، وتمرغ في التراب، وأرجو منك يا صديقي أن تذهب معي إلى أشهر المحامين لاسترداد شرفي المفقود. وفي الصباح الباكر، اصطحبته إلى مكتب المحامي أبو الدواهي الكائن في بناية بورسلي في قلب مدينة رأس الخيمة العتيقة، كان صاحبي يضع عقاله مائلا ً على رأسه، فبدا مظهره مضحكاً بعض الشيء ... نظرت غلى وجهه، كان مقطب الحاجبين، متهدل البراطم كمن يستعد للقيام بعمل هام.

قلت له :  ماذا كنت تعمل قبل أن يسقط عقالك ؟

التفت إلي وقال : ليس لي عمل، فأنا ورثت عن أجدادي ملكا ً وكل شيء يأتيني دون جهد.

وبعد جهد جهيد وصلنا إلى مكتب المحامي، وفور وصولنا عرضنا عليه القضية.

قال المحامي :  لا شك إنها قضية شرف تمرغ في التراب وانه لشرف عظيم أن أضطلع بالدفاع عن هذا الشرف مقابل مبلغ خمسون ألف درهما ً تدفع مقدما ً .

وفي الموعد المضروب، وبينما كنا نتداول أطراف الحديث وصلنا إلى باب المحكمة،  وعند بابها كان شرطيا ً يقف منتصبا ً  ...ويحمل في  يده اليمنى رشاشاً  ويعلق في خاصرته اليسرى مسدساً . وما إن آه صاحبي حتى ارتعد وكش بدنه، وانكمشت رقبته وتهدلت براطمه حتى برزت أسنانه البيضاء ونتئت عيناه وبدت عليه مظاهر الرهبة والخوف.

قلت : ماذا حل بك ؟ هل أنت خائف ؟ بلع لسانه ولم ينبس ببنت شفة وتوارى خلفي كمن يريد الهروب .... مد يده إلى نصف العقال وانزله قليلا ليخفي به وجهه، لكن الشرطي لم يأبه بنا بل ظل منتصبا ً في مكانه .

دخلنا مباشرة إلى بهو المحكمة حيث اصطف طابور من المحامين، كل منهم يحمل رزما ً من الأوراق، سألنا أحدهم عن قاعة المحكمة، فأشار إلى السلم وقال: في الطابق الأول ...وحين صعدنا رأينا لوحة تحمل  اسم القاضي،  وكان الباب مفتوحا ً على مصراعيه ... فولجنا،  وفي الصالة وجدنا محامون وأرباب قضايا يتوددون للقاضي ويستميلوه للبت لصالحهم.

فز المحامي المكلف بالمرافعة عن قضية عقال العز والشرف واستقبلنا بالترحاب وأشار علينا بالجلوس على احد الكراسي، ثم أتجه إلى القاضي، واخذ يهمس في إذنه لبضعة دقائق ثم عاد إلينا بوجه ثعلباوي ماكر وبعينين غريبتين،  ابتسم بسمة صفراء وقال : تقرر تأجيل النظر في الدعوة إلى أجل غير مسمى، وطلب منا الانصراف، فقمت أنا أولا ً ثم تبعني صاحبي بعد أن  كاد عقاله أن يسقط على البلاط، وحين خرجنا، نظرنا بنشوة إلى البلاط، كان البلاط يزهو بألوان لامعة من سيراميك رأس الخيمة، لون أحمر ولون لأخضر وأصفر ورمادي، قفز إلى ذاكرتي لون العقال الذي طلبه صاحبي من صانع العقلة, وبينما كان بهو المحكمة يفيض بالمحامين والمراجعين الذين التفوا حول القاضي بشكل دائري, برز عيد يحمل نصف عقال ملون باللون الأحمر، تناول صاحبي نصف العقال وضمه إلى النصف الآخر وتوج به رأسه.

 


تعليقك