نزيف
الجرح المتقيح في وجدان الذاكرة العربية في
الزمن العربي المعاصر تتلاحق الأحداث في محطات لم يعد مسرحها مسبقا، ولم تهيأ ترتيبات
ردود أفعالها إلا فيما ندر، ليفاجأ المواطن العربي على حين غرة بأن أمن الوطن
مهدد ومقومات الردع مهدرة والوعي تجاه الأحداث مشوه. فاذا
ما استقرأنا تاريخ منطقتنا العربية المعاصر وباستثناء ثورة يوليو التي فجرتها
نكبة فلسطين وأشعلت الوعي العروبي على امتداد جغرافية
هذا الوطن من المحيط إلى الخليج، مؤذنا بفجر الحرية والاستقلال التي شاهدتها
حينذاك معظم أقطاره، فاننا نجد أن الأحداث بعد ذلك قد تتالت بسرعة وقوة لتعطي
الحق لفئات منوعة قد تتشابه في
أيديولوجياتها وأهدافها أو تتغاير كليا أو في بعض نقاطها
ولكنها كلها متفقة على ان يكون لها الحق في قلب
المعادلة بحيث تصبح مسميات الأمور، عكسها هو الصحيح، فالخضوع لاملاءات المحتل ما هو إلا سلام الشجعان ومقاومة إرهاب فكرة
حرية الأرض تستبدل بفكرة حرية السوق المطلقة عند البعض أو إطلاق حرية شواذ الفكر
والثقافة عند آخرين . ومن
هذه المغالطات ما يتجاوز الشأن الداخلي وهناك من الأمثلة الكثير. فالشاب العربي
الذي أطلقوا عليه منذ سنوات قليلة لقب المجاهد ونال كل الدعم المادي والمعنوي من
الامبريالية وأعوانها لمقاتلة الاتحاد السوفييتي في
أفغانستان، أصبح اليوم في نظرهم إرهابيا مطاردا من جبال تورا
بورا إلى زقاق وحواري المدن العربية وقراها ومن لدن تلك القوى ذاتها. وأسلحة
الدمار الشامل المزعوم وجوده في العراق وحجج انتهاك حقوق الإنسان وغياب
الديمقراطية فيه استخدمته القوى الامبريالية كذرائع
لقتل أطفاله بأحدث أسلحة الدمار الشامل وحماية ودعم من عينته هذه القوى ليحرص
على استمرار الاحتلال. وتوظيف كثيرا من الأحداث أو خلقها يكمل هذا المشروع الامبريالي، فكما هو الحال في سر اغتيال الحريري في لبنان
يمثل تفجير مرقد الإمامين في العراق "خطة طريق الأحداث" لتبلور هوية
الاقتتال والتشرذم لتحل محل الانتماء للسلم الأهلي
والتوحد الوطني والتوافق القومي. ولم
تهدأ المحاولات لتكرار هذه السيناريوهات الخبيثة في عدد آخر من الأقطار العربية:
في فلسطين والصومال والسودان والحبل على الجرار. وهذه المناطق المتفجرة تراها كونداليزا رايس بأنها خلاقه!
(لهم طبعا)، وهنا يمكن استعادة الذاكرة العربية إلى جانب ما استجد عليها من
معطيات، "حروب الجاهلية". فإحداث مخيم نهر البارد ما هو إلا استنساخ
لحرب داحس والغبراء. وكذلك يمكن القول عن أشلاء الجثث المتطايرة في بغداد
والبصرة والعامرية وغيرها من مدن العراق الجديد المحرر وتلك الجثث المعصوبة العيون
الغارقة في نهري دجلة والفرات أو المتناثرة على ضفافهما أبلغ تعبير عن الفكر
المأزوم الذي طبل لقدوم الغازي المفترس كمخلص للشعب العراقي. انه التجسيد
الواقعي لنظرية رايس "الفوضى الخلاقة".
وفي كل هذه الحالات يبقى هدر الدم
العربي هو القاسم المشترك وانعدام المعايير الاخلاقية
والفكرية والتضليل هو المحرك الأساسي. ونذهب أكثر من ذلك لنقول أن هذا الاصرار المتعمد لتشويه الوعي العربي يتوازى جنبا إلى جنب
مع انبثاق معايير دولية مزدوجة يسلط "مجلس الأمن" سيفها على رقاب
العرب دون غيرهم بينما العدو يقطف ثمار ازدواجية تلك المعايير ويرشف رحيقها نخبا
لانتصارات مكائده. وبهذه المعطيات الملموسة نبرهن لمن يصر على
تجاهل الحقيقة و تتجه أبصاره جهة غرب خارج حدود الوطن العربي يلتمس العون لنؤكد
أن الدواء الذي تأملوه ما هو إلا الداء بعينه وأن هذه
الأجواء القاتمة التي نعيشها حيك معظمها من
الجهات الخارجية التي تتطلعون إليها وذلك لتطويع مقومات واقع الوطن
العربي سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ليتواءم مع استراتيجيات وضعت لتضمن انصياع
الأمة العربية للهيمنة الامبريالية وما يزيد الطين
بله ان يتولى
الخطاب العربي الرسمي في معظمه, ومع الأسف، إدارة شئون هذا المشروع الامبريالي. وهنا أعود ثانية لأشير لنفس الأحداث التي
ذكرتها وكيف ادركها أو تعامل معها النظام العربي
الرسمي وليست أحداث غزو العراق واحتلاله والاعتداء الصهيوني على لبنان وفلسطين
ببعيد. ويكفي أن نلقي نظرة على هذا الواقع لنرى الطموحات العربية كيف تدحرجت
لتصل إلى استجداء العدو أن يقبلنا جيران خيرين له و ليهبط مع هذا الطرح المشئوم
الفكر الذي أريد له أن يكون محتكرا ومؤطرا في سياق
منظومة من القيم الامبريالية مستنسخة عن مصادر مراكز
أبحاث التشويه التابعة لمخابراتها لاغيا بذلك كل ما يمت بصلة للفكر الذاتي
الواعي والبناء مبتكرا لتحقيق ذلك صنوف أدوات القمع ووسائل الإقصاء, واذا بواقع هذا الوطن يصبح بعيدا عن طموح أبنائه ويصبح
أبناؤه إن استمروا بداخله غرباء عنه. وبينما الوطن العربي غارقا في مشاكله مكبلا
بأغلال الغزاة فان الجرح العربي الغائر
ينزف حتى النخاع. وهنا
مواسية، أتساءل مع الوجدان العربي ببيت لشاعر لا أذكر أسمه: متى الأقدار تنصفنا ونسلو زمان الانتداب والاحتلال وتخفق راية للعرب كبرى على
الأمصار تطفح بالجلال (الكرامة القاهرية) 25-6-2007
|
|