ملحمة غزة وما تخفيه السطور

 

رغم تهافت بعض حكام العرب على الانصياع لأطروحات السلام المزعوم، لم يستجد في الأمر شيء بالنسبة لعدوان إسرائيل إلا تصاعد همجيتها! فإلى متى ستبقى هناك عروش يعتليها من لا يستحقها ؟

هذه العبارات ليست هي صدى ما يردده المثقفون والمفكرون في الوطن العربي فقط، وإنما هي ترجمة  لكلمات عبر عنها السائق الأسيوي الذي لا يتكلم العربية إلا بصعوبة.  فعلى أي أساس بنى هذا السائق فكرته؟ ربما استقراء الواقع يبرر هذه الفكرة:

     في يوم 30 سبتمبر سنة 2000 استشهد الطفل محمد جمال الدرة (12عاما) بينما كان والده يحتضنه ليحميه من رصاص أطلق عليه بغزارة من قبل جنود صهاينة كانوا يعيثون في أرض غزة بطشا وفسادا. وفي يوم 12 يناير من العام الحالي (2009) وفي غزة أيضا، استشهد الطفل فارس(عامان ونصف) بينما كانت والدته انتصار تحاول حمايته باحتضانها له، مثله مثل غيره من الشهداء الأطفال والنساء والشيوخ، الذين أبادتهم إسرائيل مستخدمة هذه المرة كل ما تيسر لها من مخزون ترسانة أسلحتها الفتاكة كطائرات "الأباتشي" ودبابات "الميركافا" والقنابل "الفوسفورية".

مجزرة قانا الأولى التي ارتكبتها إسرائيل ضد إحدى المدارس التابعة للأمم المتحدة في لبنان سنة 1996 لا تختلف  عما سبقها وما تلاها من مذابح في مصر ولبنان و فلسطين وتمثل مذبحة مدرسة الفاخورة التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين التي حدثت يوم 6 يناير 2009  استمراراً لسلسة هذه المجازر ففيها بلغ عدد الشهداء 43 شهيدا معظمهم من الأطفال، وما زالت مواصلة جرائم العدو مستمرة، حيث تعرضت نفس المؤسسات الأممية للعدوان عدة مرات متزامنة مع  مشاهد القتل والتدمير للبشر والحجر بدم بارد تجاوزا لكل الخطوط الحمراء دون رادع. 

  العدوان ضد أمتنا لا يتوقف، فدائما نحن العرب إما أننا أدوات لتجارب سلاحهم أو مكان للتخلص من قديمها. وهذا بالطبع  يقابله استمرار المقاومة الذي يتوازى جنبا إلى جنب مع خنوع بعض الحكومات العربية وأحيانا مباركتها للعدوان، سواء بالقول (بترديد نفس  الادعاءات) أو بالفعل (المساهمة في الحصار) وما خفي كان أعظم، مشاهد تتكرر، ما يميز إحداها عن الأخرى، أن التالية تصبح أكثر بشاعة من سابقتها والموقف المتوقع من حكام العرب مفهوم سلفا بأنه لا يرقى إلى مستوى طموحات الجماهير العربية حتى في أدنى تواضعها. أحداث تراكمية مأساوية ما قلناه بالأمس نقوله اليوم ورددناه على مدى عقود. أين أنتم يا حكام العرب؟ سؤال لم تقتصر صياغته على اللسان العربي، بل أصبح يردده كل فرد على وجه المعمورة. فالساكت عن الحق شيطان أخرس.

إذن يمكن القول بأن الجديد في الأمر، هذه المرة هو اتساع رقعة الصدى مع عمق المشاعر الإنسانية. خرجت المظاهرات في كل العواصم والمدن العالمية، العربية منها وغير العربية بل الإسلامية وغير الإسلامية. صرخات أطفال غزة التي شوهتها القنابل الفسفورية بلغ صداها ضمير كل إنسان حر. لقد أصبحت  مواقف كثير من زعماء الدول الإسلامية المتماهية مع دعوات شعوبها مؤيدة لقضيتنا المركزية، قضية فلسطين. موقفهم هذا هم يرونه كما نراه نحن ما هو إلا واجبهم الذي يمليه عليهم دينهم تجاه أخوتهم في الإسلام والجوار.

في تركيا تظاهر الآلاف احتجاجا على هذه المجازر مطالبين أن يكون للعرب والمسلمين دورا شجاعا لإنهاء المهزلة الإسرائيلية المتكررة والمستخفة بعقول العرب والمتحدية للقوانين الدولية. رئيس وزراءها رجب طيب أردغان كان شديد اللهجة ضد إسرائيل التي وصف عدوانها على غزة بأنه نقطة سوداء في التاريخ ويصعب شفاؤها في ضمير الإنسانية. ولم تكن إيران شعبا وحكومة أقل نخوة من تركيا، حيث صرح محمود أحمدي نجاد بدعمه المادي والمعنوي والإعلامي للقضية الفلسطينية. فما يحدث في تركيا وفي إيران  وغيرها من الدول الإسلامية ما هو إلا تلبية لهذا الواجب الديني والأخلاقي.    

ولكن شجب واستنكار العدوان الإسرائيلي والتعاطف والتأييد للشعب الفلسطيني ومقاومته في غزة لم يقتصر على الشعوب العربية والإسلامية بل تعداها إلى شعوب العالم بأسره بكل قومياته وأديانه بطريقة لم يشهد لها التاريخ مثيلا. وقد نقلت لنا المحطات الفضائية، احتجاج الحاخام اليهودي الذي أحرق جواز سفره الإسرائيلي متبرئا من جنسيتها.  ولم يستثن من هذا الاستنكار إلا الاستكبار العالمي والعصابات الصهيونية ومن يدور في فلكهم.

ولعل ما قام به الرئيس الفنزويلي هوجو تشافيز يمثل قمة الرفض لهذا العدوان الهمجي، حيث طرد السفير الإسرائيلي وموظفي السفارة الإسرائيلية كما طالب بمحاكمة قادة إسرائيل والولايات المتحدة واصفا الجيش الإسرائيلي بالجبان وما يحدث في غزة بالمحرقة. ومثله فعل الرئيس البوليفي اليساري إيفو موراليس بقطع العلاقات مع الكيان الغاصب. هذا في الوقت الذي ما زالت  أعلام إسرائيل ترفرف في عواصم  بعض الدول  العربية وبضائعها تغرق أسواقها وأموالنا تعج بها مؤسساتهم. وحكام العرب يرتبون لعقد مؤتمرات مشبوهة تفاديا لما قد تفشل إسرائيل إن شاء الله في تحقيقه بالقوة. وتماهيا مع الإعلام الصهيوني نجد بعض وسائل الإعلام الرسمية  في الوطن العربي وتلك التي تدعمها بعض الحكومات، تنفث سمومها محاولة تشويه الصمود الأسطوري للمقاومة التي استطاعت أن تفرض واقعا جديدا سيغير المعادلة عما كان قائما قبل اندلاع الحرب. اهتزت ضمائر العالم ولم تهتز "شوارب" بعض من يعتلي كراسي المسئولية في هذا الوطن. وهذه الملحمة الأسطورية للمقاومة يراد لها إجهاض ما حققته وستحققه، بطرقهم الملتوية والتآمر عليها.

إذن نستطيع القول أن مسلمة "بابوه" (وهذا هو الإسم الإفتراضي للسائق) بأنها صحيحة. ويمكن القول أيضا أن ما قرأ (بضم القاف وكسر الراء) بين السطور سابقا أصبح واضحا الآن ويؤشر إلى سطور ما زالت مخفية. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

 مهرة سالم القاسمي

الإمارات العربية المتحدة في 15يناير 2009

 


تعليقك