بين سلاحي التدليس والقنابل العنقودية دنس الغزاة عاصمة الرشيد

 

قصفت بغداد! عبارة نزلت كالصاعقة على مسامعي فشعرت كأن الأرض قد تهاوت، ففي فجر يوم الخميس التاسع عشر من مارس  من هذا العام استيقظ الإنسان العربي على خبر نذير كارثة لا يقوى على تحملها، فعاصمة الرشيد تحت نيران العدوان، ومضت أيام ثقيلة تصدى الإنسان العربي في العراق بمفرده تحت مسامع العالم لهذه القوى الغاشمة فأبلى بلاء حسنا.

وقف الشرفاء من العراقيين ما يقارب من ثلاثة أسابيع في وجه أعتى قوة في العالم ورغم الاستنكار الشعبي العالمي لهذه الحرب وظفت الدولة الغازية كل ما لم يخطر على بال من أساليب الترغيب والترهيب والتمويه والمغالطات، فاستخدمت وسائل الابتزاز مستفيدة مادياً أو معنوياً من حكومات دول شاركت بطريقة أو بأخرى طائعة أو مرغمة، علنا أو سرا، بينما اكتفت حكومات دول أخرى بالرفض الخجول لهذا العدوان.

قبل تهديدات كونداليزا رايس وتصريحاتها المتكررة بأنها ستحتل العراق حتى لو اعتمدت دولتها على سياسة الأرض المحروقة، رفع رئيس الإدارة الأمريكية شعار العدوان: "من ليس معنا فهو ضدنا" فكان لهم ما أرادوا من تجييش وإعداد شمل أقرب المقربين، فزودت القوات الغازية بكل ما لم تكن تحلم به من الرجال والعتاد والتسهيلات اللوجستية اشترك في ذلك أعداء الأمة وأولئك المحسوبون عليها.

وصلت دبابة موردخاي اليهودي إلى قلب العاصمة بغداد لتوجه طلقاتها إلى اسم الجلالة على أحد بيوت الله والكل يعلم أي طريق سلكت وبخيرات أي أرض زودت هذه الدبابة وما كان بصحبتها من أرتال الدبابات وأسراب الطائرات وغيرها لتدك هذا البلد العربي، وتقتل أطفاله ونساءه المحرومين من الغذاء والدواء وكأن جموع الأطفال المصابين بسرطان الدم وسوء التغذية الذين امتلأت بهم مستشفيات العراق ليست كافية لشفاء غليل الغازين، وبينما كانت القنابل العنقودية وكل أصناف الأسلحة الفتاكة تتساقط على رؤوس أبناء عاصمة الرشيد، وقف الإنسان العربي عاجزا مشلولا ًيتجرع الألم لا يدري لماذا لا يوظف ما يملك ما حباه الله به من نعم لدرء الأخطار عن هذه الأمة وتحقيق الرخاء وصيانة الحقوق والكرامة.

غزت أمريكا العراق بحجة فرض الديمقراطية ونزع أسلحة الدمار الشامل في الوقت الذي تولى رئيس إدارتها السلطة قبل ثلاث سنوات بقرار من المحكمة العليا وليس عن طريق التصويت. ووقف ضد المظاهرات الاحتجاجية في العالم والتي شملت كبرى مدن الولايات المتحدة التي تصدى لها رجال شرطته بالقوة.

لن أشير هنا إلى مدى شرعية السلاح المستخدم ضد العراق في هذا الغزو، فهذا الأمر ستكشفه الأيام وسيحاسبه التاريخ جنبا إلى جنب مع مدى شرعية الحرب نفسها. ولكن الذي لابد من التأكيد عليه أن الخسارة الفادحة التي تكبدها العراق – ليس وحده فقط- وإنما الأمة العربية على وجه العموم لا تقدر بثمن، فإلى جانب ما حصد ته من أرواح بشرية وبنى تحتية، أدت هذه الحرب إلى تحطيم رموز الحضارة، فالمتاحف التي نهبت والمكتبات التي أحرقت والنصب التذكارية التي حطمت ما هي إلا شواهد على تاريخ عاصمة الحضارة العربية، والذي من شأنه أن يترك بصماته على وجدان أبناء هذه الأمة إلى الأبد، للن يفلح الغزاة في اقتلاع مخزون هذا الوجدان مهما بلغ تنكيلهم وتعددت افتراءاتهم.

نعم هذه هي أمريكا تضرب العرب في عقر دارهم بعد أن استدرجتهم بالموافقة على قرارات دولية ظالمة تزعمت فرضها على العراق، وبعد أن قبلت بغداد بالتعاطي مع هذه القرارات الظالمة تنصل منها الداعون إليها وترك العـراق وحده يواجه لا شرعية الحرب وقدم للعراق نصائح المخلصين والمغـرضين على حد سواء  لتجنب العدوان ومنها تنحي رئيسها عن السلطة، ولكن هل كان يمكن  للعـراق مهما فعل تجنب ما طبخ في دهاليز المعتدين؟ لا أعتقد ذلك فهذا ما اعترف به رامسفيلد حيث صرح بأنهم سيغزون العراق بوجود الرئيس صدام حسين أو بدون وجوده، وهل كان يمكن للعـراق أن يتجنب الحصار؟ أشك في ذلك، فكل الأهداف قد أعـد لها مسبقا وما على الظروف المؤاتية إلا أن تشعل فتيلها، والظروف كثيرة ومتعددة ولا يمكن تجنبها؛ هذا إذا ما وضعناها في إطار الفعل ورد الفعل وحكمنا عليها بموضوعية. وتبقى الأسباب الرئيسة للحرب حقيقة ساطعة كالشمس في وضح النهار، فضمان هيمنة القطب الواحد على العالم، يعتمد اعتمادا كبيرا على احتلال منابع النفط العربي.

إذا كانت هناك ظروف آنية لهذه الإدارة التي أرادت أن تصدر فشل سياساتها الاقتصادية والسياسية (إفلاس الشركات والنصر المزعوم في أفغانسان) إلا ّ أن ضمان أمن إسرائيل يبقى أهم الأسباب التي لم تختلف عليها كل الحكومات الأمريكية على مر تاريخ عمر الكيان الصهيوني. لتحقيق هذا الهدف لابد من صياغة عالم عربي جديد أو كما يحبون تسميته شرق أوسطي جديد يتم فيه تشكيل إنسان عربي بمقاييسهم تحت إمرة حكام حددت مسبقا صلاحياتهم ومهامهم القابلة دائما للتدحرج إلى الأسفل داخل كيانات مجزأة ومعزولة لا يتسنى للعربي أن يتحرك بداخلها إلا بأوامرهم ووفق مصالحهم. فهاهي أمريكا تعلن عن نواياها الشريرة بإقامة حكومة عسكرية في العراق بقيادة الجنرال جاي جارنر ذي الميول الصهيونية والمختار من قبل حكومة الكيان الصهيوني، ونتيجة لفشله في إخضاع العراقيين للمخططات الأمريكية، عين من هو أشد منه عداوة للعرب، أعني بول بريمر الذي طالما حث الإدارة الأمريكية على التعامل مع دول مثل سوريا وإيران والسودان بالصرامة بحجة مكافحة الإرهاب. أما العراقيون المستوردون من العواصم الغربية والذين أدوا مهامهم بإخلاص لأسيادهم الغزاة في تدمير بلدهم وسرقته ونهبه فلم تترك لهم زمام الأمور في العراق رغم تواطئهم المشين مع الغـزاة  .

لا عجب إذًا أن تبدأ أمريكا بتحطيم دولة مهما قيل عنها، إلا أنها حكومة وطنية أعطت الشأن القومي جل اهتماماتها فبدأت الإصلاحات التنموية والمستقلة وساهمت في بناء قوة صناعية وعسكرية متقدمة، وكان لها دورها القومي البناء في الصراع العربي الإسرائيلي. فمنذ إنشاء الكيان الصهيوني وعلى تعاقب حكوماتها شارك العـراق مشاركة فعلية في كل المعارك التي حدثت بين العدو الصهيوني والعرب. وفي العقود الثلاثة الأخيرة وقف العراق ضد المعاهدة المصرية/الإسرائيلية سنة 1979 والتي سبقتها زيارة السادات للقدس كما رفض ما تلى هذه المعاهدة من استسلام ذليل للعرب نتج عنه معاهدة أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل ثم اتفاقية وادي عربة سنة 1998 بين الأردن وإسرائيل. وتشير الوقائع إلى أن هذه الحلول السلمية لم تؤد إلا إلى ارتفاع نسبة التصلب والصلف الإسرائيلي وتفاقم الوضع الكارثي للفلسطينيين في الأراضي المحتلة وسياسة القتل والتدمير والمجازر، فمجزرة قانا في لبنان وجنين في فلسطين ما هي إلا نموذج من الرد الطبيعي عن إعلان الضعف العربي والارتكان إلى سياسة التسوية بدلا من الاستعداد لاحتمالات الغدر الإسرائيلي. وكان العراق على قمة الهرم في رفضه لهذا الابتزاز الإسرائيلي، فأكد على مواقفه الرافضة للتسوية والداعمة سياسيا وماديا للحق الفلسطيني. وبعد اندلاع انتفاضة الأقصى في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 2000 كان العراق في طليعة الدول العربية التي بادرت بالتبرع لدعم صمود الانتفاضة  بالإضافة إلى دعم أسر الشهداء مما اعتبرته أمريكا وإسرائيل دعما للإرهاب.

 كان لهذه السياسات العراقية أثرها في قيام إسرائيل باستخدام كل ما تملك من وسائل التحريض لتقوم الولايات المتحدة بضرب العراق وتغيير نظامه الذي تعتبره يشكل تهديدا لها مدركة أن تدمير القوة العراقية يشكل إضعافا للعرب وتفوقها عليهم مما سيسهل تنفيذ مخططاتها العدوانية المستقبلية والتي هي سلسلة منظمة تمشي على وتيرة واحدة في محطات زمنية أعد لها مسبقا بحيث تتواءم مع ما تحدثه الظروف المؤلمة المتكررة في الوطن العربي. فمــاذا نحن فاعلــــــــون؟

 


تعليقك