قصائد من دواوين الشاعرة اللبنانية سوزان عليوان

من ديوان (عصفور المقهى)

 

مكانُكَ في المقهى
ليسَ خاليًا

بعدَ رحيلِكَ
جاءَ عصفورٌ
وجلسَ في رُكْنِك.

أتأمَّلُهُ
من بعيد
مثلما كنتُ أتأمَّلُكَ
وهو يدخِّنُ سيجارتَهُ
ويشردُ بعينيه اللتائهتين
في الدخان.

 

 

من ديوان (لنبدأ بالنهاية)

(لئلاَّ نبتذلَ أشواقَهُما بالتشويق)

  

عاشقان في الليل 

خائفان

كدمعتين

في عينيْ طفلٍ

مثقوبِ القلب

وردتُهُ مجروحة.

 

معطفُهُ على كتفيها

ذراعُها حول عنقِهِ

يرتعشان

بردًا و عتمة

مثلَ ورقتيْ شجرةٍ

شبهِ عارية.

 

يحبُّها

وتحبُّهُ

لكنَّهُما

عندَ نهايةِ الشارعِ الطويل

سيفترقان.

 

انظروا إلى الرسالةِ التي

يسطعُ

طرفُها الشاحبُ

من حقيبةِ يدِها،

انظروا إلى المصابيح التي تنطفئُ

إثرَ خطواتهما

سربَ نجومٍ

تتساقطُ أجنحتُهُ.

 

سيمضي

وحيدًا

بدموعِها الساخنة

على خدِّهِ

وستختفي هي

عندَ المفرقِ

متكئةً

على ظلِّها

وحنانِ كلماتِهِ الأخيرة:

"صَحِبَتْكِ الملائكةُ يا حبيبتي".

 

كم أنتَ قاسٍ

أيُّها العالم!.

 

 

كما لو في حلم

 كان يحلمُ

وكانت، هي أيضًا، تحلمُ

وفي معادلةٍ عجيبةٍ

(تعجزُ عن تفسيرِها كلُّ علومِ العالم

ويشرحُها، بكُلِّ بساطةٍ، بائعُ وردٍ متجوِّل)

التقيا

كما لو في حلمٍ

وحينَ تعانقت أصابعُهُما

لأوَّلِ مرَّةٍ

ابتسما

ابتسامةً كبيرة

مثلَ قمرٍ

اكتملَ

بنجمتيْنِ:

يدُهُ

ويدُها

المشبوكتانِ

بوردةٍ حمراء.

 

قوس قزح

 

كُلَّما ابتسمَ الهلالُ

في ظلِّ نجمتيْن

عادتِ السماءُ

وجهًا،

وكُلَّما اختلسا تحتَ المطرِ قُبْلَةً

استعادَ الحبُّ

كما لو بمعجزةٍ

ألوانَهُ السبعة.

  

بعدَ أن كانت سمكةً عطْشى...

 يدُها الصغيرةُ

بينَ كفَّيْهِ

لؤلؤةٌ

في حضنِ صَدَفَتِها.

 

لهذا الحبِّ الصافي

مطرًا

ينهمرُ

إلى أعلى

يدينُ البحرُ

بزُرْقَتِهِ.

  

وله

 أهي الوجوهُ كُلُّها
تُشْبِهُهُ؟

أم أنَّها

لِفَرطِ الوَلَعِ

في كُلِّ وجهٍ عابرٍ

تراهُ؟.

 

 

كواكب و نجوم من قمح

لأنَّهُ يحبُّها

يصعدُ

كُلَّ ليلةٍ

على سلالمِ العتمةِ

بقدميْنِ حافيتيْن

خشيةً  أن يدنِّسَ السماءَ بحذاءٍ

لا ينزلُ

إلاَّ والقمر في يدِهِ

رغيفًا يفتِّتُهُ

على شكلِ كواكب ونجوم صغيرة

دونَ أن يهدرَ حبَّةَ قمحٍ واحدة.

 

بالتساوي

بالعدلِ الذي لا تعرفُهُ سوى أصابع عاشق

يوزِّعُ كعكاتِهِ الدافئةَ

على أطفالِ الشوارع

على شبابيكِ النائمينَ دونَ عشاءٍ أو أمل

على الكلابِ والقططِ الضالَّةِ أيضًا.

 

فقط

لأنَّهُ يحبُّها.

 

من أحبَّ إنسانًا

أحبَّ الناسَ جميعًا.

 

 

من ديوان (بلد الدموع)

(ذلكَ الذي لا نستدلُّ على مكانِهِ إلاَّ من خرائط الأطفال)

 

البلياتشو ذو الدموع الملوَّنة

مكوَّمًا

مُهْمَلاً

مثلَ خرقةٍ قديمة.

 

على مصطبةٍ ملطَّخةٍ بدموعِهِ

الزرقاء

الخضراء

الحمراء

المنهمرة

بمساحيقِهِ الرخيصة

على الخشبِ المهترئ

وجوخِ قبَّعتِهِ الداكنة

المضاءة

فجأةً

بقمرٍ فضيٍّ من جيبِهِ

وزهرةٍ، من شَعْرِها، بيضاء.

 

الولدُ و البنتُ الجميلان

كقمرٍ فضيٍّ

وزهرةٍ بيضاء.

 

 

المتوسِّلُ... بنظرةٍ مثقوبة

 بعينيْن مفقوءتيْن

يتوسَّلُ نظرةَ حنانٍ صافية

نظرةً واحدة

لا يعكِّرُها اشمئزازٌ

ولا تبتذلُها شفقة

نظرةَ إنسانٍ

لأخيهِ الإنسان

 

لكنَّ العابرينَ سريعًا بمعاطفهم

لا يرونَ فيهِ

سوى متسوِّلٍ معوَّق

في زاويةٍ من رصيف

يقذفونَ في راحةِ يدِهِ المتشقِّقة

قروشًا قليلةً

ويختفون.

 

وحدهما الولد والبنت المتعانقان

ضفيرةً من لحمٍ ودم

تحتَ مظلَّةٍ ملوَّنة

وضعا، برفقٍ، في ثقبيْهِ العميقيْنِ

قطعةً من الخبزِ المُحلَّى

وكمشةَ زبيبٍ و ياسمين

متوهِّميْن أنَّهُ شجرةً

وأنَّ تجاويفَ جمجمتِهِ

-هذه التي تقرفُ الناسَ

و ترعبُ الأطفال-

أعشاشَ عصافير.

 

 

السيلانيَّةُ المتدليةُ، كدمعةٍ سمراء، من حافةِ الشرفة

 من خلفِ النافذة

والمطر

يلوِّحان

ليدِها المرفرفة

بخرقةِ مطبخ مبقَّعة بالصلصة

والزيت

ونجوم الفحم

وهي تلوِّحُ

تلوِّحُ

تلوِّحُ

من البنايةِ المقابلة

من خلفِ حبالِ الغسيلِ والمطر

كأنَّها عاشقة على شاطئٍ أزرق

لاحت

في الأفقِ

سفينةُ حبيبِها.

 

ليستِ الجسورُ أقواسَ قزح

 غريبانِ في العالم.

غريبانِ عَنْهُ، أصلاً.

 

ما من مدينةٍ

قادرة

على احتوائهما

في حضنِها.

 

كُلُّ أرضٍ

خراب،

كُلُّ وطنٍ

خرافة،

وليستِ الجسورُ أقواسَ قزحٍ

كي يعبرا

لاجئيْنِ بلا أوراقٍ أو حقائب

من العتمةِ

إلى الحلم.

 

قلبُهُ الأزرق

وعيناها السمكتان

من مكانٍ بعيدٍ

إسمُهُ

في خرائطِ الأطفال

ورسائل العشَّاق

منذُ أن عرفَ التاريخُ طعمَ الحلوى والقُبُلات

بلدُ الدموع.

  

حرَّاس الحلم

زارعو الوردِ وسطَ الخراب

حاملو المصابيح في ليلِ العميان

حاضنو العصافير الجريحة في راحاتِهِمْ

إلى أن تستردَّها السماءُ

أجنحةً أو (لا قدَّرَ اللهُ) أرواحًا

الذينَ، بمناديل من لحمٍ ودم، يمسحونَ الدموعَ والعرق

عن خدودِ المُهانين

والجباهِ الذليلة

حرَّاسُ الحلم

بمفاتيح من ضوء

وسياجٍ من أزهار.

 

العشَّاقُ الذينَ

بأيدٍ بيضاء

ومطارق ملوَّنة

يرمِّمونَ الأرضَ والأرواح.

 

 

 

من ديوان (تحت سقفٍ من نجوم)

بيت من سُكَّر

بيتٌ من غرفةٍ واحدة

واسعة

وبدفءِ قُبْلَة.

 

سريرٌ نصفُ غافٍ

يحلمُ

بنخلتيْنِ

تؤرجحانَهُ

تحتَ سقفٍ من نجوم،

 

خزانةٌ من خشبٍ ومرايا

تنتعِلُ

بقوائمِها الأربع

جواربَهُما المُهْمَلَة،

 

كنبةٌ  كَسِلَة

تشاهدُ الرسومَ المتحرِّكة وتتثاءبُ

ملتحفةً بمعطفِهِ الأسود

وشالِها الملوَّن،

 

مكتبةٌ عجوز

تضمُّ الكُتُبَ

أطفالاً من ورقٍ

برفوفٍ كانت

في حياةٍ سابقةٍ

أغصانَها،

 

زاويةٌ للأكل،

زاويةٌ للرسم،

زاويةٌ لقططٍ مغرورةٍ تقدِّسُ النومَ والعزلة،

وفي زاويةٍ من المطبخِ الصغير

الذي لا يصلحُ إلاّ لصناعةِ الحلوى

عاشقان ذائبان

كقطعتيْ سُكَّر

في العناقِ

والضحك.

 

التوأم

 منذُ طفولةٍ لم تعِشْها

منذُ حافرِ حظٍ

كانت ترسمُهُ

ابتسامةً

على شبابيكِ المطر

منذُ أن اكتشفتِ الظلامَ

وخوفَها من الظلامِ

في ليلِ الغربةِ القاسي الطويل

وهي تنتظرُهُ:

فارسٌ

بعينيْن لوزيَّتيْن

وقلبٍ من سُكَّر

بلمسةٍ

يعيدُ الفرحَ مُهْرًا

على جبهتِهِ هلالٌ

في صهيلِهِ سماءٌ من نجوم.

 

الغريم

 يشتعلُ

غيرةً

وجنونًا

من القبلاتِ التي توزِّعُها

أمامَ عينيه

على حوافِّ الفنجان.

 

الفنجانُ اللعينُ!

 

الفنجانُ المحظوظ!

 

كُلَّ صباحٍ

تعاودُهُ الخطَّةُ الشرِّيرةُ ذاتُها:

سيفلتُهُ من يدِهِ

ويصرخُ من أعماقِ البيت

كطفلٍ أسقطَ كوبَ الحليبِ سَهْوًا

مفتِّتًا غريمَهُ

على بلاطِ المطبخ البارد

راسمًا على وجهِهِ ابتسامةً محيِّرة:

انتصارٌ؟

أم اعتذار؟

 

لكنَّهُ يتراجعُ دائمًا

في اللحظةِ الأخيرة

ويوبِّخُ نفسَهُ بقسوةٍ و خجل

وهو يتخيَّلُ قبلاتِها الحلوة

مكسورةً

مرميَّة

في الكيسِ الأسود

وسطَ القاذورات

وبقايا الطعام.

 

 

                                                           عن موقع الشاعرة سوزان عليوان 

http://www.suzanne-alaywan.com/