من الزمـن الجميـل

بدرية الشامسي

    بلهفة يحاول الوصول  إليها، يحتضنها بعينه قبل أن يصل إليها حاثا كرسيه المتحرك على الوصول بسرعة إلى سريرها ، يقترب منها مرددا دعوات الشفاء  كان يحاول الاقتراب  أكثر لكن  كرسيه المتحرك وسريرها المرتفع  منعاه من ذلك اكتفى بمد يده إليها. ثم عاد بكرسيه إلى الوراء محاذياً كرسيه  لسريرها، تأملها وهي راقدة على السرير المغطى بالملاءات البيضاء، لم يعتد أن يراها  راقدة في سريرها ، وهي الفراشة المحلقة في كل أنحاء البيت،  تذكر أيامه الأولى معها  كيف كانت تنشر  الفرح في كل أرجاء المنزل، لم تعرف  الكسل أول الخمول  أو الاعتماد على احد في تدبير شؤون منزلها يوماً، كانت تستيقظ  قبل  أن يتنفس الصباح نسائمه الأولى  وما أن يتعالى صوت المؤذن  مناديا  للصلاة  تكون هي  قد أنجزت  نصف أعمال المنزل وخاصة إعداد طعام الإفطار، عندما يعود من صلاة الفجر  كانت تناديه رائحة خبزها المميز قبل أن يصل إلى باب المنزل، كان لا يشعر ببهجة اليوم إلا بالإفطار معها وسماعه لدعائها له بالتوفيق قبل أن يخرج من باب المنزل متجها للسوق،  لتكمل هي بقية أعمال المنزل من ترتيب  وتنظيف  وإعداد لوجبة الغداء ، فتنهي كل أعمالها قبل أذان الظهر وتبدأ في الاستعداد لاستقباله وتحضير مائدة الغداء. لم تعرف الشكوى قط ، ما عهدها إلا شاكرة لله حامدة  في السراء والضراء ، أنجبت  له الأولاد والبنات ربتهم تربية صالحة ، أعانته على نائبات الأيام  ولم تكلفه يوما فوق طاقته ، مرت الأيام بقربها ووجودها وهي سعيدة هانئة،  كبر الأولاد  خلالها  وجاء الأحفاد الذين ينادونهم بماما وبابا كما اعتاد أن يناديهم أبنائهم ، حتى هو اعتاد أن يناديها  بماما رغم انه زوجها وهي أيضا تناديه بابا رغم إنها زوجته، هل  أراد كل  واحد منهما أن يعلي من مكانة الأخر  فلم يجد غير تلك الأسماء ينادي بعضهم بعض بها؟ أم أن  احتواء كل منهما للآخر و ارتباطهما الكبير بعضهما البعض  دثرهم بدفء الأمومة  والأبوة  فأخذا منها  تلك الألقاب؟ أم  أنهما أرادا أن يعودا أبنائهما على تلك الأسماء  ويعلماهم دروسا في الاحترام  ليرثها الأحفاد عنهم؟ كل الاحتمالات واردة  فالهدف الأهم أن يبقى الترابط متواصل بين أفراد الأسرة.

    إن الحب الذي  يجمعهما ليس كحب هذا الزمان انه حب من الزمن الجميل، ولد ونمى  بالمودة والرحمة  والاحترام المتبادل ، والرضا، حب متبادل وان كان صامتا قد لا يكون قد قال لها يوما انه يحبها  وهي كذلك لم تفعل يوما ، لكن  تصرفاتهم من حرص واحترام  واحتواء ولهفة  ووفاء  يقول ويردد كلمة احبك ، هو يحبها وهي كذلك ، إنهما من الزمن الجميل  هو في السبعين من عمره وهي في منتصف الستين جاء يزورها في المستشفى  على كرسيه المتحرك ، قرأت في عينيه  كل الحب، وفي عينيها لهفة الانتظار ومن حركة يديهما لهفة الشوق والحب الكبير.  

 


تعليقك