بدرية الشامسي دوت صرخة شقت حجب السكون
وأيقظت من في البيت، كانت تظن أنها تحلم ، وان الذي
تمر به كابوسا من الكوابيس التي تداهمها بين حين وآخر، لكن الآلام المبرحة
التي تشعر بها أكدت لها إنها تعيش واقعا، وان الذي تشعر به ألما حقيقيا، جاءها
صوت والدتها تحولق وتقرأ المعوذات عليها، أمسكت بيدها
وبكت من شدة الألم، أصرت الأم على الذهاب بها إلى المستشفى ،
لا تعلم كيف مر عليها الوقت بين الأم المبرحة والطريق الطويل إلى المستشفى ، رغم
سرعة السيارة التي كانت تلتهم الطريق التهاما إلا أنها كانت تحس إن الطريق لن
ينتهي أبدا ، تمكنت الآلام منها حتى أفقدتها الوعي، لم تعلم كم من الوقت مر
عليها وهي نائمة، استيقظت فوقعت عيناها على أجهزة تحيط بها، لمحت طيف
والدتها ينام على الكرسي المقابل لسريرها، فلم ترد أن توقظها إشفاقا عليها
، رفعت عينيها تتأمل ما حولها أيقنت أنها في المستشفى، أخذت تتأمل قطرات الدواء
وهي تتسرب إلى الإبرة المغروسة في يدها ، كانت تحس
بالألم، لكنها أثرت الصمت حتى لا تقلقل والدتها ، عادت تتأمل قطرات الدواء، لا
تعلم لم تخيلت تلك القطرات المتساقطة من الأنبوب العابرة نحو
الإبرة لتستقر في عروقها كأنها قطرات مطر ، أخذتها تلك القطرات
لأيام أحبتها عندما كانت تستبشر بالمطر وتقيم له احتفالية من نوع آخر لم يكن
يشاركها فيها إلا هو، نعم هو ... تذكرته، سالت الدموع من عينيها على أيام مضت ،
تساءلت أين هو منها الآن ؟، أين لهفة السؤال والقلق عليها لاشيء من هذا
كله، رغم علمه بمرضها لم يفكر بالسؤال عنها، كل شيء تغير مع تغير
النفوس.
كان الرجل الأول في حياتها والأوحد الذي لم تقلق الأبواب دونه، رغم
محاولات الكثير قبله قرع بابها وترفض فتحيه، ليس غرورا كما وصفها البعض وليس
لشروط تعجيزية كما ادعى آخرين، كانت تضع صورة معينة
لمن سترضى أن تدخله عالمها، قد لا تكون ذات أهمية للبعض لكنها مهمة بالنسبة لها.
عندما سمحت له بدخول حياتها كانت ترى فيه صورة الرجل الذي بحثت عنه
طويلا، تصورت أن القدر قد وضعه في طريقها لتكمل الصورة
الجميلة التي رسمتها طويلا تاركة له حرية التجوال في عالمها فأصبحت تلك
الحصون المنيعة التي طالما أحكمت إغلاق أبوابها واستعصت على الكثير قبله، اجتاحت
جيوشه كل أركانها ولم تعد بها زاوية لم يحتلها. كانت بدايتها معه مختلفة عن كل
البدايات، حوارات متميزة تديرها الأفكار المتواردة والاتفاق دون اتفاق معلن،
كانت سعيدة بتلك الصلة التي تصورت إنها ستشبه صلة جبران
بمي زيادة، كانت مراسلاتهم من نوع مختلف، كانت ترسم معه الأحلام وهو يساعدها في
رسم الصورة بل كان يضع لمساته الأخيرة على الصورة فتزيد إعجابا به، تعلمت على
يديه أبجدية المشي وسيمفونية الحب ولغة الأرواح، كان لا يبدأ صباحها إلا بتحية
" صباحك سكر" ولا يخاطبها إلا بكلمة حبيبتي، كان يحملها معه في تفاصيل
يومه، يحكي لها حكايا ويدخلها في عوالم، يمر يومها
وهو معها لا يفارقها طيفه، وقبل أن تنام يغني لها أغنية الأحلام ويلون لها
المستقبل الأجمل بلون الأمل الوردي، كانت تغمض عينيها على كلمة " أحب
الناس" وتفتحها على عبارة "حبيبتي" كان لهذه الكلمة وقعها الجميل
على روحها وقلبها، لكن عندما طلبت منه أن لا يقولها إلا لها وحدها صمت،
هنا فقط أصبح وقع هذه الكلمة على مسمعها عذب وعذاب لأنها لم تشعر بخصوصيتها بعد
صمته، حبيبتي كلمة وعد أن لا يناديها إلا بها لكن أين ؟على ورق . فتح لها كل
الأبواب إلا بابا واحدا اثر عدم فتحه، لا تعلم لما لم تنتبه لذاك الغموض إلا
متأخرة، ولم لم تلح على فتح ذاك الباب إلا مؤخرا؟ وكيف رضت بعالم الأشياء
المؤجلة بينهما التي احتفظا بها في أماكن متفرقة لم يحددا موعدا لارتيادها ولم
يفكرا في الاقتراب منها أو تحاول هي ذالك،
هل جمال ذاك العالم الذي كانت تعيش أنساها الأمر، أم أنها لم تتصور أن
تكون الصورة قاتمة لهذه الدرجة و أن خلف ذاك الباب نهاية لعالمها الجميل الذي
بدأت تتفتح وروده، أم كان هو من الذكاء والحرص على أن يطيل من عمر
ذاك العالم بأكبر قدر ممكن رغم علمه بنهايته وليس مهما ماذا تكون النتائج
فالإجابات لديه جاهزة وما عليها إلا أن تتقبل واقعها
وترضى بخسائرها ، ترى هل كان ذاك العالم مسليا له
لدرجه أن أنساه وخز الضمير والإشفاق على قلبها وروحها التي لم تحب غيره؟؟
وكيف لمن يدعي الحب أن يدمر من يحب كما فعل هو؟ لم تجد إجابة لكل
تساؤلاتها كعادتها كلما استرجعت تلك الأيام. وتذكرت كم من الأشياء الموجلة تم
إحالتها إلى ما اسماه أشياؤنا المؤجلة واهما إياها بأنها ستكون فضاءات يحلقوا فيها كلما داعب نفوسهما
الشوق لتجديد هواء أرواحهما ولم تعلم أن تلك الأشياء
المؤجلة ستعجل في نهاية عالمها الجميل وستخنق روحها أفاقت
بعد غفوة ليست بقليلة على وجوه صديقاتها يحملن الهدايا والورود جاءها صوت
صديقتها مريم ، كل عام وأنت بخير ، عيد سعيد، ردت آه مريم كيف أنت ؟ هل
غادرنا رمضان وجاء العيد؟ بهذه السرعة؟ ردت علياء: نعم لقد أعلن الخبر
بالأمس ، ونحن اليوم في أول أيام العيد، لذلك جئنا لك بهذه الورود وتلك الهدايا
مهنئين بسلامتك ومباركين بالعيد، أغمضت عينيها التي اغرورق بالدموع مرددة:
كيف جاء العيد ولم يأت؟ التفتت إليها مريم، مساءلة من هو هذا الذي لم يأت؟
تداركت خطأها فقالت اقصد الفرح.. كيف يأت العيد وأنا هنا في المستشفى؟ ردت
فاطمة لا عليك كلها أيام قليلة وستخرجين من هذا المكان وسيكون
الفرح أكبر ،لكن عليك أن تتحلي بالصبر
قليلا حتى تنتهي كل الإجراءات ، ابتسمت ابتسامة تملؤها المرارة ، مرددة
بينها وبين نفسها أيام قليلة واخرج؟؟ ليتك تعلمين، حاولت أن
تبدو طبيعية ابتسمت لصديقتها شاده على يدها شاكرة أمنياتها . قد
تكون ضحكات صديقاتها وحاكياهن انتزعنها من حديث النفس وألم
الروح والقلب عندما علمت بان اليوم عيد، وهو لم يأت بعيدياته
كما عودها في كل عيد، لكن بمجرد أن غادرت الصديقات المكان وبقت
وحدها بين ملاءات السرير البيضاء وصوت الأجهزة التي باتت تزعجها وتؤرقها بل تزيد
من خوفها ، حتى عادت إلى أفكارها وتساؤلاتها كيف تغيرت مشاعره؟ لماذا لم
يسال عنها رغم علمه بمرضها ؟ كيف لم يعد لمرضها أو صحتها أي أهمية لديه؟
وكيف بخل عليها يوم العيد بعيدياته؟ بكت كثيرا
على أيام كانت الاه منها ألم في قلبه ومراجعاتها
للطبيب قلق دائم له لا يستقر حتى يطمئن على صحتها؟ هل كان
يمثل عليها حتى القلق ! كيف أتقن ذاك الدور ؟ لدرجة أنها كانت تشفق
عليه ولا تخبره عن الكثير من أمراضها ومراجعاتها حتى لا يقلق
عليها، هي تعلم إنها عاشت وهما ، لكن لم تتصور أن يكون بهذه القسوة
فالسؤال عنها جاء من كل الناس إلا منه، فأحست كان لم يسال عنها احد، وجاء يوم العيد ليزيد من ألمها وحزنها ، رفعت رأسها من
على الوسادة بعد أن اغتسلت بدموعها ، مدت يديها إلى الورود الملقاة على
السرير ، تأملتها ، تساءلت هل هي
الصدفة أن تجمع هذه الباقة ورود الياسمين والجوري
فقط وفي يوم العيد، أم إن صديقتها تعرف حبها لهذين النوعين من الورود
فحرصت على إحضارهما لها في يوم العيد؟ ، لا تعلم لم قبلت الورد ، هل هو حنين
لأيام مضت أم هو شوق لرموزها الجميلة التي باتت تملا حياتها الآن
؟ قطع فوج آخر من الزوار الحوار الدائر بينها وبين نفسها ،
اعتدلت في جلستها بعد أن كفكفت دموعها ، ابتسمت لهم مرحبة مر
الوقت مسرعا وغادر الزوار المكان، بقيت وحدها ، كسر
رنين الهاتف صمت المكان تناولته فإذا بها رسالة نصية من إحدى الصديقات ،
تنبهت أن هاتفها مليء بالرسائل النصية التي تهني بالعيد وتطمئن على صحتها،
بحثت بين الرسائل عن رسالة منه، عله تذكرها في يوم العيد ، أو سال عنها أثاء مرضها، لكنها عادت خائبة، رمت بالهاتف جانبا وعادت
لحديث النفس ، فتذكرت أن يوم العيد كان زورقها الأول الذي حملها للإبحار نحو
عالمه، حوار على ورق تحمله رسائل كانت تنتظرها بفارغ الصبر هاربة بها لعالم من
الجمال والفرح، لدرجة أنها لم تصدق أنها تعيش عالم كعالم مي زيادة وجبران اللذان قرأت عنهما كثيرا فأعجبت بتلك المراسلات و
الحوارات بينهما دون لقاء، ، كانت تعجب من تلك الصلة الرائعة التي جمعتهما
كل تلك السنين لذلك عندما دخلت ذاك العالم كانت فرحة به جدا ، عندما تدخله تنسى
الدنيا وكل من حولها متمنية أن لا تخرج منه أبدا ، لا تنكر أنها تمنت يوما أن
تعيش حكاية كحكايتهما، رغم ذلك كانت تضحك من أمنياتها تلك فليس الزمان زمن أبطال
تلك المراسلات، عندما بدأت مراسلاتها له وبدأ الإبحار نحو ذاك العالم المختلف
دون أن تراه أو يراها أو تسمع صوته ويسمع صوتها، تذكرت أمنيتها التي ضحكت منها
يوما، فزادت سعادتها وتمسكت بذاك العالم أكثر ، قد تكون سعادتها بذاك
العالم أنساها الواقع، وفضول قرع الأبواب الموصدة التي تأخرت كثيرا في فتحها
فكانت بداية النهاية لذاك العالم الجميل. ولحب صدقت هي فيه وأخلصت له ،
أما هو فكان حبه لها على ورق. قد يكون أعجب بأسلوب حوارها، طريقة تفكيرها
، إصرارها دوما على أنها غير كما كانت تردد على مسمعه، وقد تكون مختلفة عمن
عرفهن قبلها ويعرف، تأكدت من ذلك بعد فشله في الامتحان الأخير، فأثرت الصمت بعد
أن تيقنت إن قيده نقشا فرعونيا من المستحيل كسره، فتركته للأيام علها تنسيها
إياه وتشفيها منه. غادر الجميع
وعم المكان الصمت، هي لاتزال تراقب الغروب من نافذة
غرفتها، إلى أن بدأ الظلام يتسلل شيئا فشيئا ليبدو بأكمله أمامها، بدأت الحركة
تقل في ممرات المستشفى حتى عم السكون لا شيء يكسره إلا بضع خطوات من أحدى الممرضات أو صوت سعال لأحد المرضى، استعادة كلمات
طبيبها وهو يكتب تقرير خروجها من المستشفى، بعد كل تلك الفحوصات
لم أجد تفسيرا واضحا لتلك الآلام ، أن رغبتي في مراجعة مكان أخر فلا
تترددي، قد تكون أسبابك نفسية، ثم اخذ والدها جانبا
واخذ يتحدث معه أكثر من نصف ساعة، كان الفضول خلالها يكاد يفتك بها، وبعد انتهاء
حديثهما لم تجد أي إجابة شافية من والدها عن حالها ورأي الطبيب، كانت
قد أصيبت بالصدمة والقلق من حديث الطبيب، بعد كل تلك الفحوصات وتلك الأجهزة والتحاليل يعجز عن تفسير سبب الألم ،
أخذت الوساوس تغزو فكرها فتضع احتمال اثر أخر، لا تعلم لم تذكرت فجأة رواية
"طوق الياسمين" التي أحبتها ولم تمل قراءتها للمرة
الخامسة، تذكرت يوم أن باحت له بإحساسها بان نهايتها ستكون كنهاية بطلة
تلك الرواية التي غادرت الدنيا وهي لاتزال مريضة
بحبيبها، سعدت بهذا الاجساس الذي ينتابها الآن وفي
هذه الظروف بالذات، بل تمنت أن يحدث لها ما حدث لبطلة الرواية، فكم جمعت
تلك الرواية بين دفتيها من أحداث وحكايا
ما شابه حكايتهما ومن الرموز ما شابه رموزهما فلماذا لا تكون نهاية
حكايتهما كنهاية تلك الرواية، مر الكثير من الوقت وهي غارقة في أفكارها ،
لم ينتشلها من تلك الأفكار إلا إحدى الممرضات حاملة الدواء في أخر ليلة
لها في ذاك المكان الذي لم تحبه أبدا، أخذت الدواء أغلقت عينيها مستجدية
النوم دون أن تنظر إلى الساعة، ودخلت في نوم عميق. غادرت المستشفى عائدة للمنزل استعدادا
للسفر إلى إحدى الدول التي وصف لها العلاج فيها، بقدر ما أحبت السفر ورغم
اعتيادها عليه، إلا أنها كانت خائفة جدا منه ولا تريده، لكن الأمر لم يعد بيدها
والقرار ليس قرارها، في ليلة السفر تمنت أن تبلل سمعها بمطر صوته فقد تكون تلك
الزخات أخر ما تسمع، لكنها مجرد أمنية تعلم
أنها من الصعب عليها تحقيقها ، لكن كيف لها أن تسافر دون أن تودعه وتطلب منه
الدعاء كما اعتادت في كل رحلة سفر فرحلتها هذه المرة مختلفة ومشوارها ليس حلما
مشتركا، بل هو مجهول عليها احتضانه مهما كانت نتائجه، كانت تحتاج منه دفقه أمل
تعينها على احتضان المجهول بكل ما فيه، فقررت أن ترسل له رسالة وداع تطلب منه
الدعاء عل رده يوافيها قبل السفر، كتبت له رسالة حملتها أشواقها ووصاياها
طالبة منه الدعاء، وقبل أن تغادر بدقائق تفقدت بريدها علها تجد منه رسالة تطفئ
شوقها وحنينها، وتخيب كل مخاوفها وتوقعاتها، لكنه هو الذي خيب ظنها وأملها عندما
فتحت البريد ووجدته خاويا كقلبها ونفسها وروحها، لم تجد أي رد منه، كفكفت دموعها
وأغلقت كل الأبواب حاملة خيبتها وخوفها من المجهول الذي قررت احتضانه مهما كان
نوعه.
|
|