أيهما أكثر تذكرا

 الخبرة المؤلمة أم الخبرة السارة

 إعداد: ميسون سالم القاسمي

 يقول سارتر "أن الكلمة مقدسة حينما أكون أنا الذي استعملها، وسحرية حين يسمعها الغير"   ويعقب الدكتور جاسم كريم في  كتابه (الوعي والفكر في الفلسفة وعلم النفس) على هذه الفكرة حيث يقول  "لعل الشك الذي يراود أولئك الباحثين يكمن في عدم إمكانية الكلمة باعتقادهم لتحقيق هذه الوظيفة السامية، حقاً أن رؤية العلاقات الكائنة بين الأشياء المختلفة هي وظيفة سامية، إلا أن الشيء السامي الآخر هو أن تعرف أن الكلمة هي التي تنجز ذلك،  فأرجو أن تنجز الكلمة اعتقادي"، وقبل الإجابة على سؤال: أيهما يميل الإنسان إلى أن يتذكر الخبرة المؤلمة أم الخبرة السارة؟  أعرض ما يلي:

 الذات والزمان :

إن الذات التي تحيا في الزمان لابد من أن تشعر بأنها محصورة في الآن بين القبل والـبعد، بين الماضي والمستقبل، بين يوم الولادة ويوم الممات، بين أللا وجود الأصلي الذي صدرت عنه اللاوجود النهائي الذي لابد أن تنحدر إليه. إن الزمان هو قرار ذاتي، ولكنه هو الذي يفصلنا أيضاً عن ذواتنا، أن ينخر في قلوبنا ويحفر في أعماق وجودنا، فلا يلبث أن يفصلنا عما كنا عليه، وعما نريد أن نكونه، وعما نود أن نفعله! وهكذا تصبح الذات في كل لحظة مجرد ناظر أو متفرج يشهد الأفعال التي يحققها، والتي لم يعد في وسعه أن يغير من مجراها.

عندما  يكو ن المرء شاباً، ثم بعد ذلك ينتزع الزمان شبابه، ففي الحقيقة أن هذا الشباب الضائع لم يعد من أجله شيئاً غريباً عنه وليس ملكا له، وإنما هو منه بمثابة شيء تعرف فيه على ذاته الماضية وكأن ذاتاً أخرى كان يملكها تستعرض نفسها أمام ذاته الحاضرة التي يملكها، فالزمان كالذات اتصال وانفصال، تقارب وتباعد، حضور وغياب ونحن نستعمل الزمان أحياناً للإشارة إلى الاستمرار والدوام ولكننا نستعمله أحياناً أخرى للإشارة للانفصال والابتعاد، إننا نتوهم في كثير من الأحيان أن الزمان هو كالمكان مجرد حد من حدود الإنسان ألسنا نقيس الزمان بالساعات والأيام والشهور والسنين، كما نقيس المكان بالأبعاد والأطوال والأحجام والمساحات ؟ ألم يحاول بعض الروائيين أن يتصور آلة يتحرك فيها المرء عبر الزمان كما يتحرك في الطائرة أو القطار أو الباخرة عبر المكان؟ ولكننا ننسى أن التحرك في المكان هو مجرد ابتعاد، وأما التحرك في الزمان فإنه ابتعاد وليس افتقراق!

 أجل، أن الزمان ينأى بنا عن ماضينا ولكنه لا يفصلنا تماماً عن هذا الماضي.

الإنسان والألم:

إن الإنسان يعيش بمفرده ويموت بمفرده، وأيضاً يتألم بمفرده، وربما كانت الصلة وثيقة بين الألم وبين الشعور بالذات،  والواقع أن وجودنا يظل ملتبساً بالوجود الخارجي (وجود الأشياء)، إلى أن نتألم فنشعر عندئذ بأن وجودنا لم يعد مختلطاً في غمار الأشياء، إذن، إن الألم هو الذي يكشف لنا عن وجودنا الفردي في حدة قاسية تتمزق معها الرابطة التي كانت توثقنا بالكرب، وآية ذلك أن المرء إنما يشعر بذاته حينما يدفعه الكون بقسوة، حينما يدرك لأول مرة أنه بإزاء خصم خارجي هو الكون، وهنا يبدي الفارق الكبير بين اللذة والألم، فاللذة بطبيعتها باسطة، في حين أن الألم من شأنه أن يردنا إلى ذواتنا ، ومعنى هذا أن الذات عندما تستشعر اللذة فإنها تستسلم لهذا الشعور بحيث أنها لتكاد تنسى نفسها وتتخلى عن ذاتها، في حين أنها ما تكاد تستشعر الألم وحده هو الذي يتيح لنا الفرصة لأن تعاني تجربة الوحدة على حقيقتها، والملاحظ في العادة أننا لا نشعر قط بأننا سعداء، إلا بعد أن تفارقنا تلك السعادة التي كنا غارقين في غمرتها، وربما كان السبب في ذلك هو أن السعادة تخلق ضرباً من الإنسجام بين الذات والعالم الخارجي، مما يترتب عليه نسيان الذات لنفسها، وأما الألم فإنه لابد أن يعزلنا على حدة، لأن الإنسان حين يتألم فإنه سرعان ما ينطوي على نفسه، لكي يتجه بانتباهه واهتمامه نحو تلك النيران الباطنة التي تشتعل في جوفه! إننا نتألم فرادى، لأن الألم تجربة باطنية هيهات للآخرين أن يشاركوننا معاناتها، وبعبارة أخرى يمكننا أن نقول أن الإنسان يشعر بوجوده الفردي في اللحظة التي يتألم فيها بمفرده، وهذا الوجود الذي ينكشف له عند التألم هو في الحقيقة وجد " الإنية " باعتبارها ذات خاصة فريدة في نوعها، منفصلة عن العالم الخارجي الذي يثقل كاهلها، وهكذا نرى أن الألم إن هو إلا مناسبة لشعور الذات بنفسها، من حيث هي متأصلة في أعماق الوجود العام، حاضرة أمام العالم الخارجي، وهذا الشعور هو الذي يجعلنا نميل إلى الوحدة، في اللحظة التي نتألم فيها لأننا نشعر عندئذ بإنفصالنا عن الكون على الرغم من تأصلنا في أعماق الوجود العام.

إن الألم كثيراً ما يبرز الجانب الشخصي من وجودنا لأنه هو الذي يجبر الذات إلى أن تخلع على حياتها معنى، وإذا كان كثير من الناس ينسبون إلى الألم دوراً في صميم حياتهم فذاك لأنهم يشعرون في قرارة نفوسهم بأن الآلام التي عانوها هي التي كونت معظم الجانب الشخصي من وجودهم، ومعنى هذا أن التجارب الأليمة التي يعانيها المرء لابد من أن تندمج في صميم وجوده، فتصبح بذلك ثروة باطنة تدخرها الذات للمستقبل وتتسلح بها ضد ما يستجد من الهجمات، وهكذا نخلص إلى القول بأن الألم قد لا يصبح شيئاً دخيلاً تعانيه ونقع تحت تأثيره بل هو قد يستحيل إلى أداة فعالة تزيد من خصب حياتنا الروحية، وتعمل على صقل شخصيتنا بشرط أن نجعل منه تجربة ذاتية تزيد من عمق حياتنا الباطنية، وتكون أداة  "لتربية أخلاقية " لنفوسنا. تلك هي أهم مظاهر الحياة الشخصية للإنسان على نحو ما يكشف عنها بعد من أبعاده ألا وهو" البعد الداخلي" فهل نقول أن هذا البعد هو الذي يعبر وحده دون سواه عن ماهية الموجود البشري؟

 الواقع أننا لو أمعنا النظر في الحياة الشخصية للإنسان لوجدنا أن كنهها ينطوي على متناقضات: انقباض وانبساط؛ تقلص وامتداد؛ تركز وإشعاع ؛ انطواء على الذات وافتراق عن الذات .. إلخ ، "فداخل" الذات البشرية ،  في حاجة دائما إلي "خارج" إن صح التعبير ، وإذا كان من الحق أننا في العادة محبوسون خارج ذواتنا ومن ثم فإنه لا بد للتأمل الباطني من أن يجئ فيحررنا من هذا السجن الخارجي، سجن الأشياء ، فإن من الحق أيضا أنه لا بد لنا من الخروج من أسر الحياة الباطنية نفسها. وهنا يجئ " العقل " فيكون بمثابة همزة الوصل بين الداخل والخارج.

خلاصة القول أن من شأن الألم في كثير من الأحيان أن يولد في النفس تناقضا خصبا يزيد من عمق الحياة الباطنية. عندما تشعر الذات بتوتر حاد بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون ، فإن هذا التوتر على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي R.lesenne شعور مبالغا فيه، وليس معني هذا أن الألم في حد ذاته خير، وإنما معناه أنه قد يعود بالخير على الذات حينما تتمكن تمثله؛ حينما تستطيع أن تجعل منه أداة فعالة لتحقيق السمو الروحي وصقل الممارسات الحياتية، وهكذا  يكون في وسعنا أن نقول أن القدرة على تحويل المعاناة والآلام من الأمور السلبية إلى كل ما هو إيجابي سيجنب مسيرة حياتنا أوخم العواقب. وهكذا، ربما يكون أعضل داء يمكن أن تصاب به النفس هو أن تصبح غير قادة على التألم ؟ إذا فإن التألم ليس مرضا على الإطلاق ، وإنما هو بالأحرى نقاهة النفس، أو هو على السبيل إلى تحقيق سرور أعمق وأطهر.

هذا عرض مختصر من كتاب " مشكلات فلسفية " للدكتور زكريا إبراهيم .

ولا شك أن الكتاب شيق وثري في قيمته بالرغم من النظرة التشاؤمية التي نلاحظها مثال لذلك عندما يقول أن الإنسان يعيش بمفرده ويتألم بمفرده .

صحيح أن لكل كائن وجوده الأصيل الذي لا سبيل إلى تمثله أو فهمه من جانب غيره من الموجودات كما يقول مؤلف الكتاب ، وصحيح أن الذات يستحيل للآخرين اختراعها ولكن هذا لا يمنع أن تكون هناك مشاركة وجدانية تحقق للإنسان الإحساس بالانتماء للجماعة والأمن والتقدير، فهو يعيش في وسط جماعة تربطها روابط مشتركة ومصير مشترك ( روابط لا يمكن استئصالها )، تشاركه ألامه ، تشاركه أفراحه ، فإن تألم وجد صدى لإحساسه مما يخفف وطاءه الألم، وإن فرح وجد صدى لفرحه مما يزيد إحساسه سرورا وهذه من خصائص ومميزات مجتمعنا العربي والإسلامي، التكاتف والترابط ، فكما قال الرسول (ص) " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو،تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي "

إذا كون الإنسان يعيش بمفرده ويتألم بمفرده هذه أكثر ما تتضح في المجتمعات الغربية فطابع حياتهم يتسم بالعزلة والفردية وانحلال الروابط الأسرية والاجتماعية، أستطيع أن أقول أن ضعف العلاقات الإنسانية يدفع في اعتقادي إلى المبالغة في تضخم الذات والفراغ الروحي ، على عكس مجتمعنا العربي والإسلامي الذي أساسه التوازن النابع من أيماننا بعقيدتنا الإسلامية التي توظف كل شئ ( طاقاتنا) في محله فثراء في العلاقات الإنسانية إلى جانب ثراء روحي يغذيه اتصال العبد بربه والتزامه بحدود شريعته السماوية،فيتحقق للفرد المؤمن بذلك اتزان الذات.

وأخيرا يمكن القول، وإن كانت الأفكار الغربية تعبر عن واقع يختلف تماما عن واقعنا، غير أن ذلك لا يمنع أن يقف العقل لاجتهاداتهم وقفة تقدير ولكن دون الانغماس تماما  في تيارها فعلينا الاجتهاد والانتقاء كل ما هو إيجابيا منها، ويقول محمد إقبال : " إياك أن تكون آمنا من العلم الذي تدرسه فإنه يستطيع أن يقتل أم بأسرها".

لذلك يجب أن، تكون تفسيراتنا نابعة من صميم ذاتنا الإسلامية وليس من صميم ذات أخرى، وأن تحمل طباعنا شخصيتنا، ذلك أن الخالق وهبنا شريعة سماوية تسمو على كل جهد بشري فتنير السبيل لاجتهاداتنا. ويقول د. حسن الشرقاوي: "المنهج الإلهي المتكامل صالح للتطبيق تماما في كل عصر ومكان... إنه يتفوق على غيره من المناهج البشرية الموضوعية الحسية والعقلانية تفوقا يجعل منه المنهج الكامل الرائد في العلوم والسنون والسلوك العلمي جميعا".

للإجابة على السؤال السالف ذكره، أضع بعض النقاط والتي يمكن أن تؤخذ في الاعتبار وهي:

ـ وعينا لشعورنا بالسعادة ينجلي أكثر بعد أن تفارقنا، أي أن وعينا، وليس شعورنا بالسعادة في اللحظة "البعدية" أكثر من وعينا لها في اللحظة "الآنية" التي نعايش فيها شعور الألم ، وبالعكس أن وعينا لشعورنا بالألم في اللحظة الآنية أكثر من وعينا له في اللحظة البعدية ودائما نشعر في لحظات الألم أن الوقت يمر بطيئا ومعني ذلك أن إحساسنا بالوقت يتكثف أكبر عن حجمه الطبيعي.

إذا مما سبق نستنتج أن هناك علاقة بين الإحساس بالزمن وبين حالة السدود وحالة الألم

- هل يمكننا تحليل مكونات السؤال إلى ( خبرة ، تذكر ، ميل )؟

أولا : الخبرة :

هي موقف يتعلم منه الفرد.

إذا ما هي الخبرة السارة والخبرة المؤلمة ؟

الخبرة السارة هي ( موقف) حالة سارة يتعلم منها الفرد، وهكذا فإن الخبرة المؤملة هي موقف مؤلم يتعلم منه الفرد ؟

وفي اعتقادي أن الإنسان يتعلم من الخبرة المؤملة أكثر مما يتعلمه من الخبرة السارة، وهنا يتضح دور الإحساس بالزمن ففي حالة الألم يكون الإحساس بالزمن أكبر وطبيعي، حيث أن الزمن الأطول يتيح فرصة التعلم أكثر مما يتيحه الزمن الأقصر، ذلك أن الإحساس بالألم أقوى من الإحساس بالسرور، بمعني أن تأثير الألم هو الأقوى من تأثير السرور وبالتالي فإن فرصة التعلم منه أكثر وأقوي.

ثانيا : التذكر :

نحن نعرف أن الشيء الذي نتعلمه يتواجد أولا في الإدراك أو المعرفة قبل أن ينتقل إلى الذاكرة والإدراك في وقت من الأوقات يحدث أثرا يترسب في الذاكرة، وهو ما يقابل الأحداث المدركة أو المعروفة، هذه العملية هي التي تجعل التذكر أمرا ممكنا فإذا لم تدرك الشيء في المقام الأول فمن الواضح أننا لن نستطيع أن نتذكر،أي شيء عنه، وهكذا فإنه من البديهي القول أن ما هو موجود في الذاكرة لا بد أن يكون قد قدم بشكل محسوس أو مدرك أو معروف.

ومن الطبيعي أيضا، أن الإدراك يختلف من شخص لآخر وبما أنه يحدث أثرا يترسب في الذاكرة فإن تذكرنا الموقف المدرك، سواء كان مؤلم أم سار، يعتمد على كيفية إدراكنا له.


ثالثا : الميل :

مما سبق عرفنا أن التذكر يعتمد على كيفية الإدراك، وهذا يختلف من شخص لآخر فهناك فروق فردية بين الأشخاص.

أما إلى إيهما يميل الإنسان إلى تذكره أكثر، فهذا يعتمد على طبيعة الإنسان وبما أنه لا يوجد فردين متطابقين نظرا لاختلاف المؤثرات (الجينات) الوراثية والمؤثرات البيئية اللذان ينظر إليهما بأنهما محددان للسلوك البشري، فإننا لا نستطيع التعميم بقولنا أن الإنسان يميل إلى تذكر الخبرة المؤلمة أو السارة ولكن نستطيع أن نقول أن هناك أربعة احتمالات لا غير وهي : ( بالنسبة للخبرة المؤلمة والسارة):

1)           أن يميل الإنسان إلى أن يتذكر الخبرة المؤلمة

2)           أن يميل الإنسان إلى أن يتذكر الخبرة السار

3)           أن يميل الإنسان إلى أن يتذكر الخبرة السارة والخبرة المؤلمة

4)           أن يميل الإنسان إلى أن يتذكر الخبرة السارة ولا يتذكر الخبرة المؤلمة 

هذه هي الاحتمالات الممكنة ،لكن الاحتمالات التي أراها أقرب لاعتقادي هو أن الإنسان يميل إلى تذكر الخبرة السارة وفي نفس الوقت يستفيد مما تعلمه من الخبرة المؤلمة ولا يجعل جانبا يطغي على الآخر، أي عليه أن يحدث عملية توازن ويجني ثمار كل تجربة.

وأخيرا؛ يقول نيتشه :

"إن الإنسان حيوان" "ولكني أفضل استبدال كلمة حيوان بكائن" كائن ناقص غير مكتمل لذلك فإن ما في وجوده الطبيعي من نقص أو عدم كفاية هو الذي يضطره إلى العمل والابتكار والإبداع .

حقا أن عقل الإنسان يحاول أن يشمل كل الأشياء ولكن إبحاره هذا لا ينتهي لأن مثيرات الكون غزيرة والشمول لله وحده خالق هذا الكون فهناك شيء أمام أعيننا لا نراه .. إنها الاعتيادية التي تنشر داءها فتغشى الإبصار عن كنوز من المعارف.

إنها الاعتيادية .. إنه القصور المعرفي (الإنساني) الذي يدفعنا إلى تغذية الذهن البشرى بنعم الخالق التقرب من الكمال لإدراك حدود الشمول فأرجو أن يكون ما سقط مني سهوا بفعل الاعتيادية أو القصور المعرفي أن أصل إليه يوما ما.